19‏/12‏/2009

الفلاسفة عبر التاريخ / كانت

إيمانويل كانت

 ((أمران يثيران الإعجاب في نفسي السماء المزينة بالنجوم فوقي وسمو الأخلاق بداخلي)


إيمانويل كانت (1724 - 1804) فيلسوف من القرن الثامن عشر ألماني من بروسيا ومدينة كونغسبرغ.
كان كانت آخر فيلسوف مؤثر في أوروبا الحديثة في التسلسل الكلاسيكي لنظرية المعرفة خلال عصر التنوير الذي بدأ بالمفكرين جون لوك، جورج بركلي وداود هيوم.
خلق كانت منظوراً واسعاً جديداً في الفلسفة أثر في الفلسفة حتى القرن الواحد والعشرين. نشر أعمالاً هامةً عن نظرية المعرفة كذلك أعمالاً متعلقةً بالدين والقانون والتاريخ. واحد من أكثر أعماله شهرة هو نقد العقل المجرد، الذي هو بحث وإستقصاء عن محدوديات وبنية العقل نفسه. قام الكتاب بهجوم على الميتافيزياء التقليدية ونظرية المعرفة وأجمل مساهمات كانت في هذه المساحات. الأعمال الرئيسية الأخرى في نضجه أو شيخوخته هي نقد العقل العملي الذي ركز على الأخلاق، ونقد الحكم الذي إستقصى الجمال والغائية.
متابعة الميتافيزيقا تشمل طرح أسئلة حول حقيقة الطبيعة المطلقة. اقترح كانت أن بالإمكان إصلاح الميتافيزيقا عن طريق نظرية المعرفة. اقترح أنه بفهم مصادر وحدود المعرفة الإنسانية يمكننا طرح أسئلة ميتافيزيقية مثمرة. سأل إذا موضوع ممكن معرفته لخصائص معينة سابقة على الخبرة لذلك الموضوع. انتهى إلى أن كل الموضوعات التي في متناول الذهن التفكير بها لا بد أن توافق أسلوبها في الفكر. بناء عليه إذا الذهن يمكن أن يفكر فقط بشروط السببية ـ التي استنتج أنها ممكنة ـ فباستطاعتنا معرفة السابق على جعلها خبرة ذلك أن كل الموضوعات التي خبرناها يجب أن تكون إما سببا أو نتيجة. بذلك يخرج من هذا بأن من الممكن أن تكون موضوعات تلك الطبيعة التي لا يمكن للذهن التفكير بها وهكذا مبدأ السببية ـ كمثال ـ لا يمكن تطبيقه بمعزل عن الخبرة: لذلك لا يمكننا معرفة ـ مثلا ـ إذا العالم موجود أزلا أو أن له سببا. وهكذا فالأسئلة العظيمة للميتافيزيقا التأملية لا يمكن أن نجيب عليها بالذهن الإنساني لكن العلوم ترتكز بقوة على قوانين الذهن.
إعتقد كانت نفسه بخلق طريق وسط بين التجريبية والعقلانية. اعتقد التجريبيون أن المعرفة تكتسب بالتجربة وحدها، لكن العقلانيين تمسكوا بأن هذه المعرفة مفتوحة للشك الديكارتي وأن العقل وحده يدلنا على المعرفة. على أي حال اختلف كانت على أن استعمال العقل دون تطبيقه على التجربة يقود حتما إلى الوهم. بينما التجربة ستكون ذاتية مجردة دون الوجود الأول المضمن تحت العقل المجرد.
فكر كانت كان مؤثرا جدا في ألمانيا أثناء حياته، نقل الفلسفة إلى ما وارء المناظرة بين العقلانيين والتجريبيين. الفلاسفة فخته، شلنغ، هيغل وشبنهور كلهم رؤوا أنفسهم مصححين وموسعين للنظام الكانتي، هكذا نشأت نماذج مختلفة من المثالية الألمانية. إستمر كانت ليكون مؤثرا أساسيا في الفلسفة فأثر على التحليلية والفلسفة العالمية .
ولد إمانويل كانت في 1724 في كونغسبرغ عاصمة بروسيا ذلك الوقت، هي اليوم كيلننغراد في روسيا. كان الرابع في أحد عشر ولداً (أربعة منهم بلغوا سن الرشد). عمد وأسمه "Emanuel" وغير اسمه إلى "Immanuel" . في حياته كلها لم يسافر أبداً ويبتعد أكثر من مئة ميل عن كونغسبرغ. والده جوهان جورج كانت (1682-1746) كان صانع أطقم فرس في مدينة ميمل شرق بروسيا (الآن كليبدا في ليتوانيا). أمه، ريجينا رويتر (1697-1737) ولدت في نورمبرغ. جد كانت هاجر من أسكتلندا إلى شرق بروسيا ولم يزل والده يملي إسم عائلتهم "Cant". في شبابه كان كانت طالبا قويا ولو كان ضعيف البنية. تربي في بيت تقوى (حركة تتبع اللوثرية) كانت تشدد بقوة على الإخلاص الديني والتواضع والتفسير الحرفي للكتاب المقدس. بالتالي تلقى كانت تعليماً صارماً وتعاليماً قاسية وتأديبية وإنضباطية يؤثر اللاتينية وتعليم الدين على الرياضيات والعلوم.
لحسن حظ كانت الشاب كان فرانز شولتز قس/مربي العائلة قد ذهل لنضوج كانت المبكر وأقنع العائلة بإرساله إلى مدرسة في الكلية الفردركية حيث كان شولتز رئيساً. هناك قضى كانت ثمان سنوات ستة أيام أسبوعيا من السابعة صباحا حتى الرابعة مساء يدرس اللاتينية اليونانية العبرية الفرنسية والرياضيات واللاهوت. بعد تخرجه ثانياً على صفه كان كانت إبن السادسة عشرة سجل في جامعة كونغسبرغ حيث كانت إهتماماته بالفلسفة والعلم أوقدت بالبرفسور الخبير مارتن كنوتزن. قضى كانت سبع سنوات في الجامعة لكنه لم يتخرج بسبب ضائقة مالية: توفيت والدته في 1737 وتوفي والده في 1746. ليدعم نفسه كان عليه ترك الكلية ويخدم كمعلم خاص لأطفال الأسر الثرية قريباً من كونغسبرغ. أثناء هذه السنوات كرس وقت فراغه الطويل في الدراسة الذاتية وكتابة أطروحة. في 1755 عاد إلى الجامعة ودافع بنجاح عن الأطروحة وأعطي وظيفة برفاتدوزنت (ملحق مساعد أستاذ) مرتبة متدنية قليلاً وبلا راتب إلا رسوم الطلاب. في هذه السنوات المبكرة كان يدرس قرابة ثمانية وعشرين ساعة في الأسبوع في مجموعة واسعة من الموضوعات ضمنها الفلسفة علم أصول التربية التدريس الرياضيات الفيزياء العلوم الاجتماعية علم المعادن ومفضلة الجغرافيا الفيزيائية. بعد فصول كان يستمتع بقراءة الجرائد مع القهوة. في المساء كان يلعب الورق والبلياردو وغالبا يصل بيته بعد منتصف الليل سكراناً كأقل ما يقال. أرغمته الظروف على العيش ببساطة في شقة مفروشة فقط بسرير وطاولة وكرسي، ما عدا صورة ظلية لجان جاك روسو كانت الجدران عارية. ليضيف إلى مدخوله الضئيل عمل كمساعد أمين مكتبة في القلعة الملكية.
طوال ستينات وسبعينات القرن الثامن عشر كان ينشر كتباً ومقالات في العلم والفلسفة والأخلاق والجمال والفلك والمنطق والميتافيزيقا. كان محبوبا بين طلابه ليس فقط لأن محاضراته كانت حيوية لكن أيضا بسبب الملاحظات المرحة الكثير التي يقحمها. أخيرا في 1770 كان أسس كرسي المنطق والميتافيزيقا براتب يمكن أن يعيش عليه. بتنامي شهرته تلقى عروضا من جامعات أخرى بعضها وعدت بأربع أضعاف راتبه. لكن في كل حالة كان رفضه قاطعا، كان لزاما عليه كما كان أن يبقى في مدينة ميلاده. أي تغيير في محيطه المادي بما في ذلك ترتيب الأثاث يجعله غير مستقر. الحكاية التالية فريدة، في الثمانينات (القرن الثامن عشر) طور عادة التحديق خارج النافذة في قبة كنيسة بعيدة حين يعمل أو يتأمل. بعد عدة سنوات نمت أشجار في حديقة جاره وحجبت القبة، بدأ كانت في التململ والقلق ثم وجد أنه غير قادر على العمل. حلت المشكلة حين قام الجار المعجب بالرجل المشهور ووافق بسهولة على تقليم الأشجار المخالفة. كان كانت يرفض السفر، لم ير أبدا جبلا أو البحر مع أن البلطيق كان مسافة ساعة فقط.
أبلغ التأثيرات على تكوين فكر كانت كانت دينية وسياسية وعلمية. تربى على التقاليد البتسية (من الورع) حركة بروتستنتية تؤكد التقوى البسيطة والقبول لحالة المرء في الحياة وعدم الاكتراث للطقوس والعقيدة. سياسيا كان كانت رجلا من عصر التنوير تكلم لأجل حقوق الإنسان وأكد المساواة للرجل ودافع عن الحكومة الممثلة. كان تأثر عميقا في هذه المسائل بالمفكر والمنظر السياسي السوسري-الفرنسي روسو الذي أثار تساؤلات عميقة عن الطبيعة الاجتماعية للأخلاق ومشكلة عاطفة الفرد. في العلم درس أعمال السيد إسحق نيوتن التي جعلت أساسا لمحاضراته في الفيزياء والفلسفة الطبيعية. في 1755 نشر نظرية التناوب/الدوامة الشهيرة التي تشرح أصل العالم من دوران/تناوب السديم. اليوم هذه النظرية تعرف بفرضية كانت-لبلاس لأنه في 1796 الفلكي الفرنسي بير-سيمون د لبلاس نشر نموذجا مشابها مطورا أكثر.
نقد العقل المجرد
«كان كانت من المؤمنين بالله. إلا أنه يكل الإيمان إلى الضمير ولا يعتمد فيه على البراهين العقلية التي تستمد من ظواهر الطبيعة. فالعقل في مذهب كانت لا يعرف إلا الظواهر الطبيعية Phenomena ولا ينفذ إلى حقائق الأشياء في ذواتها Noumena.»
«أين نجد إذا هذا المبدأ المتعالي على التجربة؟ أنجده في الدين والأوامر الإلهية، وهي سلطة خارجة عن العقل؟ ... إنما نريد مبدأ آخر جديدا يعلو على التجربة ويفوقها، لكنه من جهة أخرى لا يخرج عن العقل ونطاق ذاتيته. ووجد كنت هذا المبدأ، وسماه "الواجب"»
ذكر كانت الضرورة العملية للاعتقاد بالله في كتابه نقد العقل المجرد. كفكرة للعقل المحض، "ليس لدينا أدنى أساس لنفترض طريقة مطلقة... موضوع هذه الفكرة..." لكنه أضاف أن فكرة الله لا يمكن فصلها عن العلاقة بالسعادة والأخلاق "كمثل أعلى للخير الأسمى". تأسيس هذا الاتصال هو عالم أخلاق معقول و"ضرورة من النظرة العملية"؛ كما قال فولتير: "لو أن الله ليس موجودا، فسيكون ضروريا إختراعه". في "المنطق" 1800 كتب: "لا يستطيع أحد تقديم حقيقة موضوعية لأي فكرة نظرية أو تقديمها عدا فكرة الحرية لأن هذا شرط القانون الأخلاقي الذي حقيقته مسلمة. حقيقة فكرة الله يمكن أن تقدم فقط بطريقة هذه الفكرة، من ثم فقط مع غاية عملية، مثلا التصرف كما لو الله موجود، من ثم فقط لهذه الغاية".
كان والد كانت سرّاجاً مجتهداً في عمله. أما والدته آنا رويتر فكانت شديدة التدين حريصة على سماع المواعظ مما دعاها إلى إلحاق إيمانويل بمعهد فردريك الذي بقي فيه لمدة ثماني سنوات قاسية يصفها بقوله «إن الخوف والرعدة يغلبانه حين يتذكر تلك الأيام». توفيت أمه وهو في الثالثة عشرة من العمر فيما توفي والده حين كان عمره اثنتين وعشرين سنة مما يعني تحمله لجزء من مصاريف أسرته. يفسر البعض بهذه النشأة القاسية تلك الصرامة والجدية التي كانت إحدى سمات هذا الفيلسوف.
كانت دخل بدفع من أمه معهد فردريك وبقي فيه لمدة ثماني سنوات ثم التحق بعد ذلك بجامعة المدينة «كونيجزبرج» في سبتمبر سنة 1740. تعلم كنت في المعهد الكلاسيكيات الرومانية واستظهر الكثير من نصوص الأدب اللاتيني الشعرية والنثرية. أما في الجامعة فقد حضر دروس مارتن كنتوسن في الفلسفة والرياضيات، ومحاضرات شولتس في علم أصول الدين ودروس تسكه في الفيزياء. وبسبب ظروفه المادية ترك الدراسة ليعمل مدرسا خصوصيا عند بعض الأسر الثرية في المدينة وريفها إلا أنه تابع دراسته في أوقات الفراغ وأعد رسالة الماجستير وأطروحة الدكتوراه سنة 1755 بعنوان «في النار» كما أعد أطروحة ثانية عن «المبادئ الأساسية للمعرفة الميتافيزيقية» سمح له بعد ذلك بأن يحاضر في الجامعة بوصفه «معلماً خاصاً» لا يكافأ إلا بالرسوم التي يقرر الطلبة دفعها. استمر على هذا الوضع القلق لمدة خمسة عشر سنة إلى أن خلا كرسي المنطق والميتافيزيقيا فعين فيه سنة 1770 حتى 1796. في سنة 1780 أصبح عضوا في مجلس الشيوخ الأكاديمي وبعد سنوات أصبح عضوا في الملكية للعلوم في برلين. وتولى عمادة كلية الآداب خمس مرّات، وكان مديرا للجامعة لفترتين كل فترة سنتان. استمر في عمله في إلقاء المحاضرات في الجامعة وإجراء البحوث والمشاركة في المؤتمرات إلى أن بلغ سن الشيخوخة واقتربت حياته من النهاية.
كانت عاش أغلب فترات حياته خصوصا بدايتها وفترة الشباب في حال اقتصادية سيئة. فقد ولد كما سلف في عائلة فقيرة وتحمل جزءا من مسؤولية الأسرة وهو في العشرين من عمره. كما أنه بقي في الجامعة بدون دخل ثابت فقد كان دخله يأتي من خلال ما يدفعه طلابه فقط وقد رفض طلبه الأستاذية في هذه الفترة مرّتين. وظل فقيرا ينتقل من نزل إلى نزل. وقد حاضر في مواضيع متباينة من أجل اجتذاب عدد أكبر من الطلاب. وكان عليه أن يحاضر بلغة واضحة ليتيسر له العيش. ولا بد كما يذكر بعض المؤرخين أن كنت المعلم كان يختلف عنه كمؤلف اشتهر بغموضه وتعسر فهمه.



عدم زواج «كانت» طوال حياته، تناولها الباحثون بشكل واسع فمنهم من عزا إليها الصرامة والجدية التي وسمت حياة كانت ومنهم من حاول أن يستنتج منها موقفا لكانت تجاه المرأة. الكثير ينسى أن الفلاسفة العزاب ليسوا بالقلة نذكر هنا المشاهير أفلاطون وديكارت وليبنيتز وهوبس ولوك وهيوم. ولكن هل كان كنت معرضا لمبدأ الزواج ؟ شهادات عدة محفوظة تثبت أنه لم يكن رافضا لمبدأ الزواج بل إنه أحب وعشق وفكر بالاقتران مرتين. يقول أحد أصدقائه «حسبما أعلم»، أبدى كانت عن عزمه الحادّ على الزواج مرتين: في الأولى تعلّق الأمر بأرملة رقيقة جميلة أجنبية (أي ليست من مدينته) كانت تزور أقاربها في «كونيغسبرغ» ولم ينكر كنت أن هذه السيدة كان يود أن يعيش معها، لكنه فكر في الدخل والتكاليف، فراح يؤجل القرار يوما إثر يوم. ثم إن هذه السيدة الجميلة قامت بزيارة أصدقائها في الجبال وهناك تزوجت برجل آخر. وفي المرّة الثانية جذبته آنسة جميلة من وستفاليا، كانت مرافقة سفر لسيدة نبيلة لها أملاك في بروسيا الشرقية. واجتمع كنت بالفتاة في اجتماعات، وكانت رقيقة وتحسن القيام بشؤون البيت، وأبدى كنت تعلقه بها، لكنه تردد كثيرا في التقدم إليها برغبته، حتى أنه فكر في الذهاب إلى زيارتها لما كانت قد غادرت بروسيا ووصلت إلى حدود وستفاليا. ومنذ ذلك الوقت لم يفكر في الزواج.
طبعا كان هذا السؤال يطرح كثيرا على كانت. وحين كان يلقى عليه هذا السؤال، خصوصا في السنوات الأخيرة من حياته، لم يكن يتلقاه بقبول حسن، بل كان يغيّر مجرى الحديث، ويرى أن ذلك إلحاح في تفقد شؤونه الخاصة. كان كنت يستمتع بالحديث والحضور مع المثقفات مع النساء لكنه، وهذا يدعو للتأمل، إذا أرادت امرأة أن تذكّره ب«نقد العقل المحض» كتابه الأشهر أو أن تحدثه في الثورة الفرنسية، وهو موضوع كان يحب الحديث فيه في اجتماعات الرجال، فإنه كان ينصرف عنها.
وقد ورد في إحدى رسائله إلى إحدى النساء حين دعاها إلى لقائه التالي «وإني أبعث إليك بقبلة، وأرجو أن يكون الهواء متعاطفا، حتى لا تفقد القبلة حرارة عاطفتها». يقول كنت في إحدى إجاباته القليلة عن عدم زواجه وكان قد بلغ الخامسة والسبعين بروح من النكتة «عندما كنت في حاجة إلى زوجة، لم أكن قادرا على إطعامها، وعندما أصبحت قادرا على إطعام زوجة، لم أعد في حاجة إليها». فهل كان الفقر هو سبب عزوف كنت عن الزواج الذي كان يعرّفه بأنه «ارتباط بين شخصين مختلفي الجنس غايته التملك المتبادل المستديم لخصائصهما الجنسية» والذي جعل شرطا لنجاحه «أن يكون الزوجان مثل شخص معنوي واحد، يحيا ويسلك بفضل عقل الرجل وذوق المرأة».



الفيلسوف والموقف من السياسة
«كانت» هو أحد رموز التنوير الكبار وفي عصر الملك فردريك الثاني (1740 - 6871) ازدهرت أفكار التنوير وأثرت الفلسفة الكنتية في أوساط المفكرين والأدباء وبعض الأوساط في إدارة الدولة لأن هذا الملك كان مشجعا للعلم والثقافة وحرية الرأي. ولكن بعد تولي ابن أخيه فردريك فلهلم الثاني، العرش في برلين (1786 - 7971) بدأت حملة ضد التنوير وحرية الفكر وانتشرت الرقابة في أرجاء المملكة وكان كنت أبرز من استهدفتهم هذه الحملة وصدر مرسوم ملكي يمنعه من الاستمرار في الكتابة والنشر (1791) لكنه لم يتوقف عن الكتابة ووصل الأمر بالناشرين إلى رفع التماس إلى الملك. ولما نشر كنت كتابه «الدين في حدود العقل فقط» سنة 1793 صدر قرار من مجلس الوزراء مخاطبا الفيلسوف «إنك لا بد تدرك كم أنت مسؤول بوصفك معلما للشباب وأمام واجباتنا وأغراضنا الوطنية المعروفة جدا.
ونرجو من سيادتك الشريفة أن تتحلى بالمسؤولية الواعية، ونأمل منكم - تجنبا لعدم رضانا العالي - ألا ترتكب أمرا من تلك الأمور، بل تستخدم مكانتك وموهبتك ووفقا لما يمليه عليك واجبك - في تحقيق نوايانا الوطنية، وإلا فإن استمرارك في هذا الطريق سيؤدي بنا حتما إلى اتخاذ إجراءات غير مرضية لك». وتحت هذا التهديد المغلف بالاحترام قرر كنت الصمت في ما يخص الموضوعات الدينية يقول في رد على الرسالة الملكية «إن إنكار واستنكار ما يقتنع به المرء أمر مهين دنيء، لكن السكوت في حالة كهذه هو واجب المحكومين، وحتى لو كان كل ما يقوله الإنسان صحيحا فليس من الواجب أن يصرّح بكل الحقيقة علانية». كان شعار كنت في هذا الموقف كما يقول عبدالرحمن بدوي «لا أقول إلا ما أعتقد أنه الحق ولكنّي لا أصرّح بكل ما أعتقد أنه حق».




كانت والثورة الفرنسية
بدأت الثورة الفرنسية ( 1789 ) وكنت في أوجه الفلسفي وكان موقفه منها معبرا عن حقيقة تقييمه للأحداث السياسية في عصره. واشتد حماسه لها قناعة بمبادئها (الحرية والإخاء والمساواة) رغم أن حماسه قد فتر مع التحولات الدموية التي جرّت الثورة نفسها إليها وراحت تأكل بنيها. إلا أن كنت بقي وفيّا للقيم كان مؤمنا بها مع فلاسفة الثورة فولتير وروسو وديدرو الذين كان متواصلا معهم بشكل كبير، كتب كنت عن الثورة الفرنسية يقول «مثل هذه الظاهرة لا يمكن أن تنسى، إذ هي كشفت في الطبيعة الإنسانية عن استعداد للعمل لما هو أفضل لأن هذا الحادث هو من العظمة ومن الارتباط الوثيق بمصالح الإنسانية ومن سعة التأثير في العالم بكل أجزائه، إلى حد أنه ينبغي أن تذكّر به الشعوب في الظروف المناسبة، وعند المحاولات الجديدة من هذا النوع».



كانت والدين
نشأ كانت في أسرة متدينة خصوصا والدته إلا أنه مع تطوّره الفلسفي بدأ في فهم خاص للدين. فقد كان يرى الفصل الكامل بين الفلسفة والدين وبين العلم والدين ويرى أن المشكلات تظهر حين يحاول أحد منهم التدخل في الآخر وإخضاعه له. وقد رفض كنت جميع أشكال ما سمّي بنصرة الدين للفلسفة أو العكس، كما أنه رفض القول بلاهوت طبيعي مؤسس على معطيات عقلية. وعنده أن الفلسفة لا تحتاج إلى طقوس ولا تقشف ولا خلوة رهبانية عن طريق إماتة الجسد والزهد ليصل عليها الوصول إلى الحقيقة. إن قوانين ومبادئ العقل هي التي تكشف للإنسان ما يجب أن يؤمن به ويسلك بموجبه تجاه نفسه وتجاه الآخرين وتجاه الكائن الأسمى أيضا، مع الاحتفاظ الكامل بعقلانيته وحريته. كان كنت رافضا بشكل كامل لسلطة رجال الدين. يذكر أنه كان من تقاليد الجامعات الألمانية أن يطوف الأساتذة والإداريون والطلاب في أول يوم دراسي «اليوم الأكاديمي» بالمدينة حتى يصلوا في الختام إلى كنيسة الجامعة حيث يصلي الجميع وينالوا بركة رجال الدين. كان كنت يطوف مع الموكب حتى إذا اقترب من الكنيسة انصرف عن الموكب واتجه لبيته.
أشتهر كانت بجدوله اليومي الصارم ومن المبالغات في هذا الشأن أن جيرانه كانوا يضبطون ساعاتهم على خروجه للمشي يوميا في الساعة الرابعة والنصف عصرا مرتديا معطفه الرمادي وعصاه في يده. يذكر أنه لم يتأخر عن هذه النزهة إلا مرّة واحدة بسبب قراءته لرواية «إميل» للفرنسي جان جاك روسو ولا يزال الشارع الذي كان يسير فيه يسمى «نزهة الفيلسوف». كان يستيقظ يوميا في الخامسة صباحا ويذكر عن نفسه أن لم يستغرق في النوم لما بعد الخامسة على مدى ثلاثين عاما، يبدأ يومه بشرب القهوة، فالكتابة، فالمحاضرة فالغداء ثم الخروج للنزهة والمشي. كما أنه كان يخلد للنوم في العاشرة مساء. وبسبب اعتلال صحته أنه كان لا يتنفس إلا من أنفه في البرد ولذا لم يكن يسمح لأحد بالحديث معه أثناء نزهته اليومية في فصول الشتاء والخريف والربيع، إذ سيضطره الكلام إلى التنفس من فمه. وكان يقول: الصمت خير من المرض. ويذكر ديورانت أنه طبق الفلسفة حتى على ربط جواربه، فكان له طريقة خاصة في ربطها برباط يمر بجيوب بنطلونه. وكان يفكر في كل شيء تفكيرا طويلا قبل أن يقدم عليه.



نهاية الرحلة واستمرار الفلسفة
في 8- 10 - 1803 أصابت كنت نوبة قلبية فلازم الفراش طيلة أربعة أيام ثم نهض وكان يتناول الطعام مع زائريه. لكن قوته بدأت تتلاشى وفي الساعة العاشرة من صباح 12- 2- 1804 سمعه أحد تلامذته يهمس بآخر كلماته «حسن» وأغمض عينيه. يقول مرافقه «كان موته توقفاً للحياة، لا فعلاً عنيفاً للطبيعة» وودعت مدينة وجامعة كونيغسبرغ فيلسوفها في مأتم مهيب، ودفن في «قبو الأساتذة» في مقبرة الجامعة دون أية مراسم دينية، وبعد أن نقل رفاته مرارا بسبب تقلّب الأحوال أنشئ له ضريح في سنة 1924 بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاده ونقشت عليه العبارة الشهيرة من خاتمة كتابه «نقد العقل العملي»: «شيئان يملآن الوجدان بإجلال وإعجاب يتجددان ويزدادان على الدوام كلما أمعن التأمل فيهما: السماء ذات النجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في صدري». يقول ديورانت عن كانت «هذا الفيلسوف الضئيل الحجم الذي لم يتجاوز الخمسة أقدام في طوله، والذي إمتاز بالإعتدال والإنطواء على نفسه، كان يحمل في رأسه أعظم ثورة في الفلسفة الحديثة». 



 






0 التعليقات:

إرسال تعليق

نرحب بجميع وجهات النظر
فلا تبخلوا بتعليقاتكم