الفيروس
(العتبة الحدية بين الحياة واللاحياة)
- إكتشاف الأشباح -
أن يكون الحجر ميتاً ووحيد الخلية حياً هذا أمراً بديهياً لا جدال فيه ،
لكن التمييز يصبح عسيراً فوراً عندما نقترب من المنطقة الحدية بين الحالتين ،
المثال المشهور لتوضيح هذه الصعوبة هو الفيروس !
هل يعتبر الفيروس كائناً حياً ،
أم أنه لم يزل في مجال الطبيعة اللاحية ؟
تتألف الفيروسات ، هذه الكائنات الغريبة فقط من خيط طويل لجزيئة سلسلية من حمض نووي ملفوف ضمن كيس بروتيني كغلاف لها ، أي أنها بتعبير آخر ليست سوى صبغية وراثية منعزلة (مستقلة) ، محاطة بغلاف واقي ،
ليست جسماً ، إنما من هذا المنظار التجريد الأقصى لما هو حي ،
وهي غير قادرة على فعل أي شيء ، حرفياً أي شيئاً آخر سوى التكاثر ،
ليست جسماً ، إنما من هذا المنظار التجريد الأقصى لما هو حي ،
وهي غير قادرة على فعل أي شيء ، حرفياً أي شيئاً آخر سوى التكاثر ،
غير أن وجودها مقتصر على هذا الغرض الوحيد ، بحيث أن بنيتها مختصرة إلى درجة أنها كما هي بدون جسم لا تمتلك حتى أعضاء خاصة لهذا الغرض ، أما البنية الوحيدة المشابهة للعضو ، والتي نستطيع بالمجاهر الإلكترونية إكتشافها لديها فهي نتوء معقوف على شكل كلاًب مثبت على غلافها ، يمنحها هذا النتوء القدرة على الإلتصاق بالخلايا الحية وثقب جدارها ، عندما يحصل الثقب ينكمش الغلاف زارقاً الجزيئة التي يحتويها في جسد الخلية المغدورة ،
بهذا الإنجاز الوحيد يكون المحتوى الحياتي للفيروس قد تحقق ، عندئذٍ تبدأ الخلية ذاتها بسحب هذه الصبغية المزروقة في جسدها إلى جهازها التكاثري ، لكن هذا الجهاز لا يستطيع أن يميز بين صبغية وأخرى ، لذلك يبدأ خاضعاً خضوعاً أعمى (وفي هذه الحالة إنتحارياً) لبرنامجه الموروث بإنتاج الصبغية الفيروسية ، متابعاً ذلك حتى تختنق الخلية المصابة وتنحل ، وهذا يعني الصبغيات الفيروسية الجديدة (التي تجهزها الخلية أيضاً ، منفذةً أوامر الصبغية الفيروسية ذاتها ، بغلاف بروتيني ، وبكلاب للتعلق) الفرصة لأن تهاجم الخلية التالية وهكذا ، وفي كل مرة لنفس الغرض الواحد الوحيد وهو التكاثر ،
مما لا شك فيه أن القدرة على التكاثر ، على إنتاج نماذج مطابقة للذات ، هي من الخصائص النوعية للكائنات الحية ،
لكن الفيروسات إقتصرت على هذه الوظيفة الوحيدة بطريقة تجعلنا لا نستطيع إعتبارها حية ، إنها لا تستطيع أن تتكاثر إلا بمساعدة خلية حية ، لإنها إختصرت بنيتها إلى حد لا يفوقها فيه أي شيء آخر ، وبطريقة ترغمها على إستعارة الآلية اللازمة للتكاثر من خلية حية ،
إذا كانت البروتينات مثل الكلمات التي تتألف حروفها من حموض أمينية ،
فإننا نستطيع تشبيه الجسيمات الريبة في الخلية بالآلات الكاتبة التي يمكن عملياً بواسطتها عند إستخدام نفس الحروف دائماً كتابة عدد لا محدود من الكلمات المختلفة ، يتم إستغلال هذه الإمكانية من قبل الفيروسات ،
حيث تجعل الخلية تنتج جينات فيروسية بدلاً من أن تنتج الجزيئات التي تحتاجها هي ذاتها ، على الرغم من أنها بذلك تدمر نفسها بنفسها ،
إن الفيرويات عملياً هي ((مورثات لا جسم لها)) ،
إنها لا تتألف إلا من حبل (حمض نووي) يحتوي شيقرة تركيبه ذاته ، ومخطط بناء الغلاف الذي يضمه ،
عندما يقوم الفيروس بمهاجمة خلية ما ، يحصل هذا بأن يتعلق الفيروس أولاً على جدار الخلية ، ثم يقوم بثقبه ، ويفرغ بعدئذٍ عبر الثقب حمضه النووي (أي يفرغ ذاته ، إذا ما غضضنا النظر عن الغلاف) في جسد الخلية ، تقوم الخلية بعدئذٍ بنقل الحموض النووية التي نفذت إلى داخلها إلى الموقع الذي تتواجد فيه عادةً الحموض النووية في الخلية السليمة (أي إلى نواة الخلية) ،
لكن عندما يصبح الحمض النووي الفيروسي هناك ، يقف ببساطة بجانب أحد الحموض النووية الكثيرة الموجودة في الخلية ، والتي تشكل هنا برنامج قيادة الخلية ، ينتج عن ذلك تغير مفاجيء لكامل برنامج الخلية ، تترتب عليه تبعات خطيرة ،
لقد حل كشف هذه العملية واحداً من أكبر الألغاز التي شغلت المختصين في البحوث التي تتعلق بالفيروسات عدة عقود من السنين ، بغلإضافة إلى المصاعب الكثيرة التي واجهتهم بسبب ضآلة حجم هذه الفيروسات (التي لا ترى إلا بالمجهر الإلكتروني) ، واجههم نوع من ((الظاهرة الشبحية)) ، فور ما يهاجم فيروس ما الخلية الحية فإنه يختفي بدون أي أثر ، وبعد مضي حوالي عشرين دقيقة ، عندما تبدأ الخلية المصابة بالموت ، يشاهد الباحثون الفيروسات ثانية ، غير أنها ليست فيروساً واحداً ، وإنما عدة مئات منها دفعةً واحدةً ،
كانت هذه في الواقع هي الفيروسات التي أنتجتها الخلية المصابة خلال الوقت المنصرم كخلف لذلك الفيروس الذي دخل إلى الخلية ،
أما ما حصل للفيروس الأول نفسه ، فقد كان آنذاك لم يزل غامضاً ؟!
ليس هناك ما يبعث على العجب في أن يواجه الباحثون صعوبة في إيجاد فيروس دخل إلى داخل الخلية ،
إذ لم يبق منه في هذه اللحظة إلا ما سببه من (حمولة زائدة) ، أي الحبل - الحمض النووي ، لذلك فإن البحث عنه في نواة الخلية ، التي تحتوي على مئات الآلاف من جزيئات الحموض النووية ، يشبه البحث عن جملة قصيرة لا تزيد عن نصف سطر في موسوعة مؤلفة من عشرين مجلداً ، إذ أن الفيروس أي سلسلة الحمض النووي التي يتألف منها وحدها الآن ، أصبح في هذه اللحظة جزءً من البرنامج الموجود في نواة الخلية ، وبالتالي فإنه قد ((إختفى فعلاً)) ،
لا يحتاج المرء لأن يكون حقوقياً كي يستطيع أن يعرف أن جملةً وحيدةً مضافةً لاحقاً إلى نصٍ ما ، يمكن أن تغير معنى كامل النص ، أو لربما تحوله إلى نقيضه ،
هذه هي بالضبط الخدعة التي يعيش عليها الفيروس ،
يدخل حمضه النووي (أي الفيروس ذاته ، لأنه لا يتألف من أكثر من ذلك) في صلب ((نص)) البرنامج المؤلف من سلاسل الحموض النووية للخلية ، وفي الموقع الذي يعطي هذا البرنامج معنىً مختلفاً تماماً ،
تصدر الخلية الآن فجأةً تعليمات إلى جسيماتها الريبية لإنتاج الأنزيمات (هنا تصبح القدرة الشاملة لهذه الجزيئات شراً مستطيراً) التي تصنع بدورها من مواد جسد الخلية حموضاً نوويةً فيروسيةً مع أغلفتها ،
يجري كل هذا بسرعة مدهشة ، إذ بعد حوالي عشرون دقيقة تكون قد نشأت في الخلية مئات الفيروسات التي هي صورة طبق الأصل عن ذاك الغازي الذي ((إختفى)) بالطريقة الموصوفة ،
بذلك تكون الخلية خاضعةً خضوعاً أعمى لبرنامج نواتها الجديد (المحرف) قد دمرت نفسها بإستهلاكها للمادة التي تتكون منها هي ذاتها ، في إنتاج فيروسات جديدة ، وهكذا تموت وتتفكك ،
تاريخ النشوء
0 التعليقات:
إرسال تعليق
نرحب بجميع وجهات النظر
فلا تبخلوا بتعليقاتكم