الصفحات

19‏/12‏/2009

الفلاسفة عبر التاريخ / روسو

جان جاك روسو



جان جاك روسو (28 يونيو 1712-2 يوليو 1778) فيلسوف سويسري، كان أهم كاتب في عصر العقل. وهو فترة من التاريخ الأوروبي، امتدت من أواخر القرن السابع عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر الميلاديين. ساعدت فلسفة روسو في تشكيل الأحداث السياسية، التي أدت إلى قيام الثورة الفرنسية. حيث أثرت أعماله في التعليم والأدب والسياسة.



حياته المبكرة
وُلد روسو في مدينة جنيف فيما يُعرف الآن بسويسرا. وكانت أسرته من أصل بروتستانتي فرنسي، وقد عاشت في جنيف لمدة مائتي عام تقريبًا. توفيت أمه عقب ولادته مباشرة، تاركة الطفل لينشأ في كنف والده، الذي عُرف بميله إلى الخصام والمشاجرة. ونتيجة لإحدى المشاجرات عام 1722م، اضطر والد روسو إلى الفرار من جنيف. فتولى عم الصبي مسؤولية تربيته.
وفي عام 1728م، هرب روسو من جنيف، وبدأ حياة من الضياع، ومن التجربة والفشل في أعمال كثيرة. كانت الموسيقى تستهويه دوماً، وظل لسنوات مترددًا بين احتراف الكتابة أو الموسيقى. وبعد وقت قصير من رحيله عن جنيف، وهو في الخامسة عشرة من عمره، التقى روسو بالسيدة لويز دي وارنز، وكانت أرملة موسرة. وتحت تأثيرها، انضم روسو إلى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. ومع أن روسو كان أصغر من السيدة دي وارنز باثني عشر أو ثلاثة عشر عامًا، إلا أنه استقر معها بالقرب من مدينة شامبيري، في دوقية سافوي. وقد وصف سعادته بعلاقتهما في سيرته الذاتية الشهيرة اعترافات التي كتبت في عام 1765 أو 1766م - 1770م، ونُشرت عامي 1782م و 1788م، ولكن العلاقة لم تدم، فقد هجرها روسو أخيرًا عام 1740م.
وفي عام 1741م أو 1742م، كان روسو في باريس يجري وراء الشهرة والثروة، وقد سعى إلى احتراف الموسيقى. وكان أمله يكمن في وضع نظام جديد للعلامات والرموز الموسيقية قد كان ابتكره. وقدم المشروع إلى أكاديمية العلوم، ولكنه أثار قدرًا ضئيلاً من الاهتمام. في باريس، اتَّصل روسو بـالفلاسفة وهي جماعة من مشاهير كتاب وفلاسفة العصر. وحصل على التشجيع المادي من مشاهير الرأسماليين. ومن خلال رعايتهم، خدم روسو أمينًا للسفير الفرنسي في البندقية خلال عامي 1743، 1744م.
كانت نقطة التحول في حياة روسو عام 1749م، حين قرأ عن مسابقة، تكفَّلت برعايتها أكاديمية ديجون، التي عرضت جائزة مالية لأحسن مقال عن الموضوع، وهو ما إذا كان إحياء النشاط في العلوم والفنون من شأنه الإسهام في تطهير السلوك الأخلاقي. وما أن قرأ روسو عن المسابقة حتى أدرك المجرى الذي ستتّجه إليه حياته. وهو معارضة النظام الاجتماعي القائم، والمضيّ فيما بقي من حياته في بيان الاتجاهات الجديدة للتنمية الاجتماعية. وقدم روسو مقاله إلى الأكاديمية تحت عنوان: بحث علمي في العلوم والفنون عام 1750 أو 1751م، حمل فيه على العلوم والفنون لإفسادها الإنسانية. ففاز بالجائزة، كما نال الشهرة التي ظل ينشُدها منذ أمد بعيد.



 المنزل الذي كان يسكنه مع زوجته
عندما تحول روسو إلى المذهب الكاثوليكي، خسر حقوق المواطنة في جنيف. ولكي يستعيد هذه الحقوق تحول مرة أخرى عام 1754م إلى المذهب البروتستانتي. وفي عام 1757م اختلف مع الفلاسفة؛ لأنه استشعر منهم الاضطهاد.



أعماله
تتسم آخر أعمال روسو بالإحساس بالذنب وبلغة العواطف. وهي تعكس محاولته للتغلب على إحساس عميق بالنقص، ولاكتشاف هويته في عالم كان يبدو رافضًا له. حاول روسو في ثلاث محاورات صدرت أيضًا تحت عنوان قاضي جان جاك روسو كُتبت في المدة بين عامي 1772 - 1776م، ونُشرت عام 1782م، حاول الرد على اتهامات نقاده، ومن يعتقد أنهم كانوا يضطهدونه. أما عملُه الأخير، الذي اتسم بالجمال والهدوء، فكان بعنوان أحلام اليقظة للمتجول الوحيد (كُتبت بين عامي 1776 و1778م، ونُشرت عام 1782م). كذلك، كتب روسو شعرًا ومسرحيات نظمًا ونثرًا. كما أن له أعمالاً موسيقية من بينها مقالات كثيرة في الموسيقى ومسرحية غنائية (أوبرا) ذات شأن تسمى عرّاف القرية، ومعجم الموسيقى (1767م)، ومجموعة من الأغنيات الشعبية بعنوان العزاء لتعاسات حياتي (1781م). وفضلاً عن ذلك، كتب روسو في علم النبات، وهو علم ظل لسنوات كثيرة تتوق نفسه إليه.



أفكاره
قام روسو بانتقاد المجتمع في رسائل عديدة. ففي رسالته تحت عنوان: "بحث في منشأ وأسس عدم المساواة" (1755م)، هاجم المجتمع والملكية الخاصة باعتبارهما من أسباب الظلم وعدم المساواة. وكتابه "هلويز الجديد" (1761م) مزيج من الرواية الرومانسية والعمل الذي ينتقد بشدة زيف المبادئ الأخلاقية التي رآها روسو في مجتمعه. وفي كتابه "العقد الاجتماعي" (1762م)، وهو علامة بارزة في تاريخ العلوم السياسية، قام روسو بطرح آرائه فيما يتعلق بالحكم وحقوق المواطنين. وفي روايته الطويلة "إميل" (1762م) أعلن روسو أن الأطفال، ينبغي تعليمهم بأناة وتفاهم. وأوصى روسو بأن يتجاوب المعلم مع اهتمامات الطفل. وحذر من العقاب الصارم ومن الدروس المملة، على أنه أحس أيضًا بوجوب الإمساك بزمام الأمور لأفكار وسلوك الأطفال.
كان روسو يعتقد أن الناس ليسوا مخلوقات اجتماعية بطبيعتهم، معلنًا أن من يعيشون منهم على الفطرة معزولين عن المجتمع، يكونون رقيقي القلب، خالين من أية بواعث أو قوى تدفعهم إلى إيذاء بعضهم بعضًا. ولكنهم ما إن يعيشوا معًا في مجتمع واحد حتى يصيروا أشرارًا. فالمجتمع يُفسد الأفراد من خلال إبراز ما لديهم من ميل إلى العدوان والأنانية.
لم يكن روسو ينصح الناس بالعودة إلى حالة من الفطرة. بل كان يعتقد أن الناس بوسعهم أن يكونوا أقرب ما يكونون إلى مزايا هذه الحالة، إذا عاشوا في مجتمع زراعي بسيط، حيث يمكن أن تكون الرغبات محدودة، والدوافع الجنسية والأنانية محكومة، والطاقات كلها موجهة نحو الانهماك في الحياة الجماعية. وفي كتاباته السياسية، رسم روسو الخطوط العريضة للنظم التي كان يعتقد، أنها لازمة لإقامة ديمقراطية يشارك فيها كافة المواطنين. يعتقد روسو أن القوانين يتعيّن عليها أن تعبر عن الإرادة العامة للشعب. وأي نوع من الحكم يمكن أن يكتسب الصفة الشرعية مادام النظام الاجتماعي القائم إجماعيًا. واستنادًا إلى ما يراه روسو، فإن أشكال كافة الحكم تتجه في آخر الأمر إلى الضعف والذبول. ولا يمكن كبح التدهور إلا من خلال الإمساك بزمام المعايير الأخلاقية، ومن خلال إسقاط جماعات المصالح الخاصة. وقد تأثر روبسْبيير وغيره من زعماء الثورة الفرنسية بأفكار روسو بشأن الدولة، كما أن هذه الأفكار كانت مبعث إلهام لكثير من الاشتراكيين وبعض الشيوعيين.



نفوذه الأدبي
مهد روسو لقيام الرومانسية، وهي حركة سيطرت على الفنون في الفترة من أواخر القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلاديين؛ فلقد ضرب روسو، سواء في كتاباته أو في حياته الشخصية، المثل على روح الرومانسية، من خلال تغليبه المشاعر والعواطف على العقل والتفكير، والنزوة والعفوية على الانضباط الذاتي. وأدخل روسو في الرواية الفرنسية الحب الحقيقي المضطرم بالوجدان، كما سعى إلى استخدام الصور الوصفية للطبيعة على نطاق واسع، وابتكر أسلوبًا نثريا غنائيًا بليغًا. وكان من شأن اعترافاته أن قدمت نمطًا من السير الذاتية التي تحوي أسرارًا شخصية. 
كان لـ "اعترافات جان جاك روسو"، التي كُتبت بين 1765-1770 ونُشرت بين 1781-1788 تأثير تاريخي مهم لأنها قدمت طرقاً جديدة لفهم النفس وعلاقتها بالآخرين الذين تعيش في وسطهم. شجاعة الكاتب وتصميمه على إعادة تقييم ما يعتبر القيِّم والتافه، الصواب والخطأ، في حياته يؤثر حتى على من يقرأ الكتاب بعد اكثر من مأتي عام بعد صدوره.
الحقائق المعروفة عن حياة روسو محدودة، ربما بسبب الاعترافات التي أعلن فيها انه سيقول الحقيقة كاملة وان اهتم اكثر في واقع الأمر بشرح مبادئه والدفاع عن نفسه. ترك روسو منزله في سن الخامس عشرة وذهب للحياة مع السيدة دوارنز التي حمته وصارت فيما بعد المرأة التي ارتبط بعلاقة معها. عمل في عدة مجالات من سكرتير الى مسئول حكومي في باريس حيث استقر سنة 1745. وقد عاش هناك مع ثريسال قاسور التي ادعت فيما بعد أنها أنجبت له خمسة أطفال ذهبوا جميعا الى منزل الأيتام لرفضه رعايتهم. ان كانت لم تقدم اي أدلة لاثبات هذه الادعاءات، فهو لم يسع لنفيها. أحياناً كثيرة، اضطر روسو للهرب من فرنسا الى سويسرا بسبب بعض ما كتبه، كما ذهب الى لندن سنة 1766 ونزل في ضيافة الفيلسوف ديفد هيوم. وقد سُمح له بالعودة الى باريس سنة 1770، وكان السماح مشروطا بالتوقف عن أنتقاد نظام الدولة في كتاباته.
أثارت أفكار روسو التي شرحها في رواية جوليا وفي مذكراته ومقالاته السياسية التي كان أهمها العقد الاجتماعي ضجة كبيرة أثناء حياته. فقد آمن روسو بان المؤسسات الحكومية تُدمر حياة الإنسان، وبان الجنس البشري سينحط مع مرور الزمن اذا لم يرجع الناس الى الطبيعة ويطبقون أسسها على نظم الحياة الاجتماعية. وهو كذلك يؤمن بان فضائل الإنسان العادي تميزه على الطبقات العليا التي أفسدها الثراء البالغ والترف المدقع.
إذاً تختلف عما كتب من قبل في هذا المجال: فبعكس القديس أوجستن الذي يسعى جاهداً للسمو بروحه فوق سطوة للذات العابرة، وينتقد نفسه بمرارة لبحثه المحموم عنها في شبابه، يقضي روسو الكثير من الوقت في وصف وتحليل اللذات التي يجدها في حياته، وكأن الإقرار بها بصراحة إنجازاً أخلاقياً كبيراً. تصوير نفسه بهذه الطريقة، كلذة وعاطفة، يدل على تعلق الكاتب بنفسه لدرجة النرجسية، اي التركيز على النفس لدرجة عزلها عن الآخرين والواقع الذي تعيش فيه. وهو كذلك يصف نفسه ككائن يتميز بمشاعر سامية عظيمة، وأفكار مشوشة فوضوية، مما يجعله يعتبر العواطف لا العقل أساساً لسلوكه. وهذه النظريات تخلق الشخصية الأساسية في الاعترافات، التي نراها كثيرا وهي تسعى للتعبير عن مشاعر طبيعية يرفضها المجتمع. رسم نفسه بهذه الطريقة، كلذة وعاطفة، بدون اي تحليل لما تعلمه من تجاربه، يدل فعلا على تعلق الكاتب بنفسه.



الإعترافات
من الكتاب الأول: (الأعوام 1712-1719)
سأبدأ بمشروع ما قام به أحد من قبل، ولن يقدر غيري فيما بعد على تكراره. ارغب برسم صورتي بكل صدق الطبيعة للقارئ. انا فقط اعرف مشاعري وأسرار قلبي، وأدرك كم اختلف عن كل من أراه حولي من الناس. أغامر بالقول انه ليس هناك مثيل لي على قيد الحياة، وهذا لا يعني انني افضل بالضرورة، بل انني من نوع آخر فحسب. سيكتشف القارئ بعد قراءة هذه الصفحات هل أخطأت الطبيعة في خلقي، ام صنعت الأفضل.
حين يدق ناقوس الساعة، سأقف أمام خالقي المعظم وهذا الكتاب في يدي، قائلا بشجاعة: "هذا ما فكرت به وفعلته. لم انس ذكر الطالح من أفعالي، ولم أضف من الخير ما لم يكن موجودا بالفعل. أؤكد الان ان الإضافات النادرة الموجودة إنما كانت لتعويض تفاصيل لم أجدها في ذاكرتي، وبانني ما ذكرت ابدا ما عرفت بعدم صدقه. عرضت نفسي كما كنت: حقيراً استحق الاحتقار او عظيماً سامياً في فكري، حسب ما كنت عليه في تلك المرحلة. كشفت نفسي كما رأتها عيناك يا خالقي العظيم. اجمع حولي الان كل اخوتي، ودعهم يسمعون اعترافي ويندبون لفشلي ومساوئي. ثم دع أي واحد منهم يكشف بذات الصدق أسرار قلبه ثم يقول لو كان يجرؤ: "كنت افضل من هذا الرجل."
شعرت قبل ان أفكر، وهذا هو نصيب الإنسان الذي عانيته اكثر من غيري. لا اعرف ما فعلته حتى بلغت سن السادسة، ولا أتذكر كيف او متى تعلمت القراءة. ولكني أتذكر أول قراءاتي وتأثيرها علي. تركت أمي بعد وفاتها بعض القصص الرومانسية، وكنا أنا وأبى نقرا منها كل يوم بعد العشاء. في البداية، كان الهدف هو مساعدتي على تعلم القراءة بمساعدة كتب مسلية، ولكننا بعد ذلك أعجبنا بالقصص وصرنا نقضي جل الليل في هذا العمل. أحيانا، كان والدي يخجل حين يسمع صوت تغريد الطيور في الفجر الباكر ويقول: "لنذهب للنوم، فأنا اكثر طفولة منك."
بهذه الطريقة الخطرة تعلمت ما هو اكثر من القراءة وفهم ما اطلع عليه، لأنني كذلك عرفت اكثر من غيري من الأطفال طبيعة الرغبات والعواطف البشرية. لم افهم بالطبع طبيعة العلاقات بين الجنسين، ولكنني أحسست بالمعاناة التي تتضمنها. هذه العواطف الغامضة التي أحسست بها واحدة تلو الأخرى لم تسيطر على قدراتي الفكرية فحسب، ولكنها ساهمت في صياغة نمط معين من التفكير الذي عانيت منه، بحيث رأيت العالم بصورة رومانسية حالمة، ولم تفلح التجربة حتى هذه اللحظة في معالجة هذا الطبع.
ما كان لي ان اعرف الشر، حين لم أر أمامي سوى أمثلة الخير وافضل الناس. لم بستمع أبى او عمتي او الأقارب والأصحاب لما قلت، ولكنهم وهبوني الحنان والرعاية وأحببتهم لهذا السبب. ما طلبت سوى القليل، وهذا تحقق دائما. اقسم انني لم اعرف معنى كلمة "نزوة" حتى بدأت بالدراسة مع معلم. باستثناء الأوقات التي قضيتها في القراءة والكتابة مع والدي، او حين ذهبت المربية بي للتجول، بقيت مع عمتي، جالسا بجوارها، متطلعا لها وهي تحيك الثياب، مستمعا لغنائها، وكنت قانعا بهذا. مرحها ولطفها وجمالها الرقيق يبقيان في ذاكرتي لدرجة انني أستطيع تذكر نظرتها وسلوكها والحنان الذي أبدته نحوي. أستطيع تذكر ثيابها وطريقتها في التمشي وحتى كيفية ترتيبها لشعرها بدون ان أنسى الخصلتين من الشعر الأسود اللتين تركتهما فوق جبينها، وهو الأسلوب السائد خلال تلك الأيام.
لأنها كانت تعرف عددا كبيرا من الأغاني التي غنتها بصوتها الرقيق العذب تعلمت منها حب الموسيقى التي درستها وكتبت عنها في مرحلة مقبلة من حياتي. اما مرحها، فقد طرد كل الأحزان من عالمها وحياة من حولها من الناس. عذوبة صوتها تبقى في ذاكرتي، وحتى هذه اللحظة افرح حين استرجع بعض تلك الأنغام والكلمات. هاأنا الآن، وقد كبر بي العمر وأحاطت بي الهموم، ومع ذلك لا أزال ابكي حين أهمهم بأحد تلك الأنغام بصوت مكسور مرتعش.
قضيت جل حياتي وأنا أتوق لحب متبادل، بدون أن انبس بأي حرف يدل على عواطفي لمن عشقتهم. مع أنني عانيت الأمرين من الخجل الشديد الذي منعني من البوح بمشاعري، فقد كنت دائما أضع نفسي والحبيب في مواقف تدل على مشاعري. كنت أجد لذة في الجلوس بجوار قدمي حبيبتي المتعجرفة، مطيعا لأوامرها، طالبا منها الغفران، وكلما ازداد خيالي التهابا اشتد تمسكي بالعفة. من الواضح ان هذا الأسلوب في ممارسة الحب لا يؤدي الى نتائج ملموسة ولن يشكل أي خطورة تذكر على براءة المحبوب. لهذا السبب لم امتلك من عشقت في الواقع، وان كان لي كل لذات الجسد في الخيال. وهكذا حافظ الخجل على صفاء روحي وعفة جسدي لذات السبب الذي كان، بشيء من الجرأة، سيلقيني في خضم الحسية الحيوانية.
أنا اذا رجل مزدوج الشخصية: في لحظة أكون عاطفيا مجنونا متهورا لا اعرف الحذر والخوف او حتى الحشمة، لا يمنعني من الوقاحة والعنف سوى خوفي على من احب. ولكنني في لحظة أخرى أصير كسولا أعاني من الخجل الشديد الذي يمنعني حتى من الحركة: مجرد كلمة لابد من قولها، او حركة لابد من فعلها، تقض مضجعي. الخوف والخجل يسيطران علي لدرجة أنني أتمنى الهروب من نظرات البشرية جمعاء، وهذا لدرجة أنني لو اضطررت للفعل، فلن اعرف التصرف القويم من شدة الاضطراب. ساعة العاطفة، تأتى لي الكلمات الصحيحة، ولكنني في الحوار العادي لا أجدها، واعاني الأمرين لمجرد ان تبادل الكلمات ضرورة حياتية.
بالإضافة لهذا، لا ارغب بما يمكن للنقود شراءه. لا أريد سوى اللذة التي لا يسممها المال ويشوهها. مثلا، احب الطعام والشراب، ولكنني لا أطيق قيود المجتمع الراقي او فوضى الحانات مما يحتم علي الشرب وتناول الطعام برفقة صديق. وحيدا، يسرح خيالي بعيدا ولا اشعر بلذات الفم. ذات الصفة تميز علاقاتي بالنسوة: فلو رغب دمي بهن، يظل قلبي يبحث عن الحنان. النسوة اللواتي يعرضن أجسادهن للبيع لا يمتلكن السحر الذي يخلبني. وهذا هو الحال مع كل ما أراه حولي من لذات: لو كان للذة سعر، لكانت لذة فاترة بالنسبة لي. أريد اللذة التي تكون فقط للإنسان الذي يعرف كيف يستمتع بها، لا لكل من امتلك القدرة على شرائها.
أعشق الحرية وابغض القيود والصعاب والاعتماد على الغير. طالما تبقى النقود في محفظتي، ستضمن لي الاستقلال وتخلصني من الحاجة للبحث عن وسائل لتعويض ما فقدت وهي ضرورة ابغضها. وهكذا يجعلني الخوف من الفاقة بخيلا. يمكن ان يكون المال وسيلة للتحرر، ولكن في حالة استسلام المرء للجشع والسعي وراء المزيد، يصير وسيلة للاستعباد. ولذلك أتمسك بما لدي و لا اطلب المزيد.
سبب لا مبالاتي هو ان لذة الملكية لا تستحق معاناة السعي لها. اما تبذيري فيسببه نوع من الكسل: حين تأتى الفرصة المؤتية للتلذذ بالصرف، استخدمها. النقود لا تغريني مثل الأغراض، بسبب وجود وسيط بين الرغبة والمرغوب، واختفائه في لحظة الاستهلاك. حين ارى ما أريد، ارغب باقتنائه، أما لو شاهدت الوسيلة للوصول له فقط، فلا يكون للإغراء القوة نفسها. لهذا السبب مارست السرقة، وحتى الان، اسرق الصغائر لان هذا افضل من السؤال والسعي، ولكني لا اذكر أبداً أنني سرقت أي شيء من المال.
من الكتاب الثاني (سنوات 1728-1731)
تعلمت درسا أخلاقياً هاما، قد يكون الوحيد الذي يملك أي قيمة عملية، وهو ان أتجنب تلك المواقف الني تجبرني على الاختيار بين مسئوليتي ورغبتي، بحيث يكون مكسبي على حساب خسارة الآخرين وإلحاق الأضرار بهم. بغض النظر عن مدى التزام الفرد الذي يصل لهذا الموقع بالفضيلة مبدئيا، ستراه يضعف شيئا فشيئاً بدون ان يشعر بهذا الضعف، ويصير ظالما شريرا بفعله، بدون ان يكف عن تصور انه ما زال عادلا في قلبه.
إعتمادي على هذا المبدأ جعل الكثير من المعارف يتهمونني بالغباء، بعدم القدرة على اتخاذ القرار، وحتى بضعف الشخصية. في الواقع، لم ارغب أبداً بلعب أدوار تشبه أدوار الآخرين او تختلف عنهم، بل رغبت بإخلاص بفعل الصواب. لذلك تجنبت دائما الموقع الذي سيتيح لي حرية الاختيار بين مصلحتي ومصالح الآخرين لانه قد يخلق في قلبي الرغبة السرية لإلحاق الضرر بهم.
أحببت بصدق واخلاص تام حرمني من السعادة. لم تكن العواطف ابدا اكثر حيوية وصفاء مما كانت عليه في حالتي. فقد كنت مستعدا للتضحية بسعادتي الف مرة من اجل إسعاد الإنسان الذي أحببته للحظة واحدة. كانت سمعتها اكثر أهمية من حياتي، وما كنت مستعدا لإزعاجها للحظة واحدة من اجل لذتي. هذا الإحساس جعلني أعيش الحب في وسط من الحذر والسرية مما حرمني من الوصول لأي نتيجة. عدم نجاحي مع النساء سببه اذا تعلقي الشديد بهن.
من الكتاب الثالث (1731-1732)
شعرت بمدى تعلقي بالسيدة دوانز حين غابت عني. قنعتُ ساعة تواجدنا سويا، أما حين غيابها، فتململتُ وعانت روحي من عدم الاستقرار. حاجتي للبقاء معها عصفت بروحي وملأت عينيي بالدموع أحياناً. لا أستطيع ان أنسى ذلك اليوم حين فرح الجميع بالأعياد، ولكنني، بسبب رحيلها لمدينة أخرى، تركت الأفراح وقريتي وتجولت في الريف وقلبي مفعم بالرغبة في ان اقضي عمري معها. أدركت استحالة ما ارغب به، وعرفت ان ما أسعدني الآن ساعة البقاء معها لن يبقى. هذه المعرفة أحزنتني، ولكنه كان حزنا بلا ألم، شتتته الآمال اكثر من مرة. أصوات الأجراس وتغريد الطيور، جمال النهار وسحر الطبيعة، ومساكن الفلاحين المتناثرة في كل مكان، والتي حلمت بان يكون مسكننا واحدا منها، كل هذه العوامل سمت بروحي لنشوة لا يمكن وصفها. لا أتذكر أبداً أنني وجدت مثل هذه السعادة في الحلم بالمستقبل، وحين تحقق الحلم لم يختلف كثيرا عما رايته في خيالي مما جعلني اعتبره رؤيا منت علي بها السماء. الخطأ الوحيد كان في رؤيتي للمدة: لأنني تصورت أننا سنقضي الأيام والشهور في هدوء دائم، بينما لم يبق الواقع الا لحظات. خسارة! سعادتي الدائمة كانت فقط في حلم تحقق في لحظة ومضى سريعا تاركا الذكرى ومعرفة ما كان.
لماذا، حين وجدت الكثيرين من الشرفاء في طفولتي، لا أري الا القليلين في كبري؟ هل اندثر ذلك النوع من البشر؟ لا، ولكن الطبقة التي ابحث عنها ما عادت كما كانت. بين الناس لا تتحدث العواطف الجياشة الا فيما ندر، اما بين الصفوف الارقى، فهي قد كُبتت تماما، ولا يُسمع الا صوت يدل على الغرور والرغبة في المصلحة.
نقيضان يتحدان في نفسي بطريقة يصعب علي فهمها: عواطف نشطة عاصفة، تقابلها أفكار ضعيفة بطيئة النمو لا تتضح معالمها الا بعد فوات الأوان. من الممكن القول ان عقلي وقلبي لا ينتميان لذات الفرد: فالإحساس يحتل روحي بسرعة البرق، ولكن، بدلا من المعرفة، التهب حماساً وافقد القدرة على الرؤية. اشعر بكل شيء ولا أرى أي شيء. فحين تخترقني العاطفة، افقد القدرة على التفكير الذي يحتاج للسكينة. الغريب هو انني برغم عواطفي الجياشة، أظل قادرا على الوصول للقرار الصائب خاصة لو لم أتعجل.
هذا البطء في التفكير وحيوية العاطفة لا يتدخلان فقط في حواري مع الآخرين، ولكني أحس، حتى في ساعات الوحدة والعمل، بالأفكار تنتظم في رأسي بصعوبة شديدة، تنموا هناك وتنضج فقط مع مرور الكثير من الوقت. العاطفة التي تفيض في داخلي مع بداية اي مشروع فكري تحرمني من القدرة على الكتابة وتجبرني على الانتظار. ثم تهدا العاصفة ويتضح المشهد لناظري ويأخذ كل شيء مكانه الطبيعي، ولكن فقط بعد فترة طويلة قد ضاعت في الفوضى والضياع.
من الكتاب الرابع (1731-1732)
قررت الذهاب الى لوسان حتى أستطيع البقاء بجوار بحيرتها الجميلة. نادرا ما اتخذت القرارات المهمة بمنطقية اكثر. ما يبدو كحلم في الأفق البعيد لا يكفي لدفعي للتصرف. عدم معرفة الفرد بما سيحدث يجعلني أرى التخطيط للمستقبل كعملية خداع يسقط المغفلين ضحايا لها. مثل غيري، كثيرا ما أطلقت العنان لخيالي وحلمت بالمستقبل، ولكن على شرط ان لا يتطلب تحقيق الحلم أي عناء. اقل اللذات العابرة أهمية تغريني اكثر من كل متع الجنة. لكن اكثر ما أخشاه هو اللذة التي ينتج عنها الألم لأنني احب اللذة خالصة بلا أي معاناة.
كلما اقتربت من إقليم فاود، أحس بمشاعر تطغى عليها ذكرى السيدة وارنس التي ولدت هناك، ووالدي الذي عاش في ذات المكان، والمدموزيل دفولسن التي عرفت معها أيام الحب الأول، وعدة رحلات سعيدة أخرى قمت بها لذات المكان حين كنت طفلا. ما أن أملت بالسعادة والآمن اللذين افتقدهما الان حتى شددت رحالي الى إقليم فاود بجوار البحيرة. أتمنى هنالك ان يكون لدي صديق مخلص وزوجة تحبني وبقرة وقارب صغير، وهو كل ما يحتاجه الإنسان ليكون سعيدا في هذا العالم. ما يؤسفني هو طبع السكان المحليين الذي يختلف كثيرا عن جمال المكان.
خلال هذه الرحلة، سلمت نفسي للأحزان السعيدة واستمتعت بألف لذة فريدة. كم مرة جلست على ضفة النهر وبكيت وشاهدت دموعي تسقط للنهر وتذوب في مياهه. زيارتي لباريس خيبت أملى. جمال بعض المدن الريفية التي زرتها من قبل، وتنظيم شوارعها، جعلني أتوقع ان تكون باريس مدينة عظيمة. تصورت في خيالي بلدا جميلة بقدر ما هي جليلة، لا يوجد فيها سوى القصور الذهبية والشوارع الواسعة. ولكني، حين وصلت لضاحية سنت ماركو صُدمت بمرأى الشوارع القذرة والمنازل السود المكفهرة والإحساس العام بالفقر والديون المستحقة، الذي جسده منظر المتسولين ومرقعي الثياب المستعملة وبائعي القبعات القديمة. كل هذا حُفر في ذاكرتي وخلق انطباعا سلبيا لم يغيره كل ما رأيت فيما بعد من عظمة، وحتى هذه اللحظة، لا ارغب بالحياة في العاصمة بسبب هذا الانطباع الأولى. طوال الوقت الذي اضطررت لقضائه في العاصمة، سعيت جاهدا للفرار منها.
هذه هي نتيجة الخيال الذي يبالغ ويتوقع اكثر مما هو موجود فعلا. سمعتهم يمتدحون باريس، فتصورت أنها اعظم من بابل في العصور الغابرة، ثم جاء الواقع ليحطم هذا التصور. ذات الشيء حدث حين زرت الأوبرا التي هرعت لها في اليوم التالي لوصولي وتكرر عدة مرات بعد ذلك.
مناظر الريف الجميلة، الهواء النقي، الصحة التي تتجدد مع المشي، غياب كل ما يذكر الإنسان بالحاجة للآخرين، كل هذا يحرر الروح ويخلق الشجاعة الفكرية في نفس الإنسان ويلقي بها في خضم الطبيعة التي تراها بحيث تستطيع جمع، اختيار، وامتلاك كل ما تريد بلا خوف أو موانع. اشعر وكأنني أتحكم بالطبيعة نفسها، بينما يحلق قلبي من مكان لاخر، مختلطاً ومتوحدا بكل ما يشفيه حتى تسكره النشوة.
في المساء استلقي في الجو النقي، أنام على سرير من الزهور. أتذكر أنني قضيت ليلة سعيدة خارج المدينة حيث أحاطت بي الحدائق من كل ناحية. ذلك اليوم كان شديد الحرارة، اما المساء فكان بديعا، لان الندى رطب الأرض، وهدأ الجو بلا نسيم، بينما تعالى تغريد الطيور. تاركاً لقلبي ومشاعري حرية الاستمتاع بكل شيء، غارقا في حلمي، استمررت في التجول حتى آخر الليل بدون أدنى شعور بالإرهاق.
من الكتاب الخامس (1732-1736)
يقال أن السيف يمزق غمده، وهذه هي قصتي. عواطفي أعطتني الحياة، وعواطفي قتلتني. أي عواطف اعني؟ تفاهات كفت مع ذلك لتشويقي وكأنني أسعى لامتلاك عروش الدنيا بما فيها. أهمها سببتها النساء. فحين امتلكت احداهن، هدأت حواسي، بينما ظل قلبي متأججاً. الحاجة للحب التهمتني حتى ساعة النشوة. كان لي السيدة دوارنز التي لعبت دور الأم، وكان لي صديق مخلص، ولكني مكثت بلا حبيبة. تصورت واحدة في مكانها ورسمتها بألف صورة لخداع نفسي. ولو كانت المرأة التي احتظنتها هي السيدة دوارنز، لما بقيت أي رغبة او متعة. متعة! وهل هذه من نصيب الإنسان؟ لو كنت قد جربت لمرة واحدة متعة الحب التامة، لا اعتقد ان جسدي الضعيف كان سيستحملها. كنت قد مت فورا.
وهكذا احترقت بنار الحب، ولكن بلا شخص احبه، وهذا الوضع كان اكثر ما أتعبني. كنت متململا بعد ان سمعت بعلاقة السيدة دوانز برجل سيئ، وبسلوكها غير الرزين الذي خشيت ان يحطمها في وقت قريب. خيالي القاسي الذي تصور دائما المصائب رسم لي صورة واقعية لما سيحدث. وهكذا تناوبتني حالات الخوف والرغبة حتى وصلت لحال يرثى لها.
من الكتاب السادس
في هذه الأيام بدأت مرحلة السعادة القصيرة في حياتي، تلك الأيام الآمنة التي تجعلني أقول، "لقد عشت فعلا." ليت تلك اللحظات تعود من جديد، وتمضي ببطء شديد. كيف يمكنني تذكر وذكر ما لم يقال بالكلمات، بل أحسست واستمتعت به؟ استيقظت وكنت سعيدا، تركتها وكنت سعيدا. تجولت في الحقول والوديان، قرأت، عملت في الحديقة، بينما جاءت السعادة ورائي في كل مكان بلا سبب. الفرحة نشأت في أعماقي وما تركتني للحظة واحدة.
أتمنى لو عرفت اذا كانت ذات الأفكار الطفولية تأتى لغيري من الناس؟ أثناء دراستي، بينما كنت أعيش حياة الملاك الطاهر، عانيت من الخوف من إمكانية ذهابي الى الجحيم. سالت نفسي، "في أية حال انا الآن؟ لو مت في هذه اللحظة، ماذا سيكون مصيري؟" للكاثوليك اعتقاداتهم بخصوص هذه المسالة، ولي شخصيا رأي آخر. وقد استخدمت وسائل سيجدها البعض مضحكة، بل مجنونة، للتخلص من الخوف الذي عانيته. ذات يوم، بينما كنت أفكر في هذا الموضوع البائس، بدأت بإلقاء بعض الأحجار على الأشجار المجاورة لتسلية نفسي، وفكرت: "سألقى بهذا الحجر على تلك الشجرة، ولو أصبتها، فسيعني هذا ان الله سيرحمني، اما لو لم أصبها، فقد حلت بي اللعنة." ألقيت الصخرة بقلب خافق ويد مرتعشة، ولكنها أصابت الهدف خير إصابة. أقول الحق، كانت شجرة كبيرة سهل علي أصابتها. ومع ذلك، لم اشك أبدا بان روحي قد نجت من نيران الجحيم. حين أتذكر هذا الحدث، لا اعرف هل يجدر بي الضحك او البكاء. العظماء سيضحكون من هذا السفه، ولكنني اقسم بأنني آمنت آنذاك بنجاة روحي من العذاب.
يعتبر روسو الحزن حالة نفسية تتيح للوعي الفرصة للتأمل في النفس والمجتمع، ولذلك يصفه بانه حزن سعيد. وهذا الاتجاه نحو تقدير عواطف مثل الكآبة وغيرها من احوال البأس النفسي من المزايا الاساسية للمدرسة الرومانسية التي شاعت في اوربا القرن التاسع عشر، وكان روسو من مؤسسيها .

















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نرحب بجميع وجهات النظر
فلا تبخلوا بتعليقاتكم