من هو إبن فضلان ؟؟؟
إبن فضلان : أحمد بن العباس بن رشيد بن حماد هو عالم إسلامي من القرن العاشر الميلادي كتب وصف رحلته كعضو في سفارة الخليفة العباسي إلى ملك الصقالبة (بلقار الفولجا) .
البلاد الإسكندنافية ، تضم اليوم ضمن الحدود الجغرافية الحديثة ، خمس دول هي : الدنمارك ، والسويد ، والنرويج ، وفنلندا ، وايسلاندا ، كما تعرف أيضاً بإسم بلاد الشمال علي إعتبار أنها تقع أقصي الشمال ، حيث تقترب أطرافها من القطب المتجمد الشمالي . ويري علماء الأنثروبولوجيا أن مجمل سكان هذه البلاد هم من نسل مجموعات الفايكنج الوثنية المتنوعة التي كانت تقطن هذه الأقطار الشمالية قبل ألفي عام ، دون وجود للتقسيمات الحدودية السياسية الحالية بشكلها المحدد الآن . ذلك الشعب الذي اشتهر بشكل عام في أذهان العامة في الشرق والغرب أنه من أخطر قراصنة البحر في ذلك الزمان ، وكانت موجات الفايكنج البشرية الخارجة من النرويج بين عامي 834 و 876 ميلادية ، قد حاولت الإستطيان بشكل إحتلالي في ايرلندا واسكتلندا ، في حين حاولت الموجات الخارجة من السويد الإستطيان في إنجلترا ونورماندي ، وقد نجح الفايكنج في ذلك لعدة سنوات ، إذ سيطروا بقيادة زعيمهم المعروف باسم ( هالفدان ) علي العديد من مناطق شمال وشرق إنجلترا خاصة شمال وشرق الخط الواصل من لندن إلي شيستر ، حيث كانت لهم سيطرة سياسية كاملة . وبعد إندحار الفايكنج بشكل تام ، بدأ التناحر الداخلي بين أحفادهم ، فإحتلت الدنمارك بلاد النرويج حوالي أربعمائة سنة ، وما أن إنسحبوا منها حتي وقعت تحت الإحتلال السويدي الذي إنتهي بإعلان إستقلال النرويج عام 1905 م ، رغم أن الكتب المدرسية في النرويج ، لا تطلق علي تلك الفترات تسمية إحتلال ولكن تعتبرها فترة الوحدة مع الدنمارك وفترة الوحدة مع السويد .
العرب وبلاد الشمال :
هل يتصور القارئ العربي ، ونحن في مطلع الألفية الثالثة ، أن أجداده عرفوا بلاد الشمال هذه قبل أكثر من ألف عام ، وتحديدا قبل أكثر من ألف و ثمانين ، وذلك بين عامي 921 و 924 م كيف حدث ذلك ؟؟؟!!! .
منذ مطلع القرن الثالث الهجري 779م تقريباً ، كثرت لدي شعوب الدولة الإسلامية المترامية الأطراف الكتب الموضوعة في أدب المسالك والممالك ، أو ما يمكن تسميته بالمصطلح المعاصر أدب الرحلات ، وكتبوا العديد من الكتب التي تصف كافة الأقاليم ، خاصة تلك التي زارها الكُتاب شخصياً ، فجاءت كتبهم وصفاً لما شاهدوه عياناً ، واصفين الأمكنة وشعوبها ، وعاداتهم وتقاليدهم وعقائدهم ، واشتهر منهم العديدين مثل الكندي واليعقوبي ، وقدامه بن جعفر ، وإبن حوقل ، وأحمد بن فضلان ، وسوف نتوقف في هذه الدراسة عند الأخير ، لإنه هو الذي زار بلاد الشمال بين عامي 921 و 924 م ووصفها وصفاً شيقاً ودقيقاً ، في كتابه المعروف بإسم رسالة إبن فضلان في وصف رحلته المشهورة إلي بلاد الترك والخزر والصقالبة والروس وإسكندنافيا في القرن العاشر الميلادي .
الخليفة العباسي المقتدر بالله ورسوله أحمد بن فضلان تولى الخلافة العباسية عام 295 هـ 908 م الخليفة المقتدر بالله أبا الفضل جعفر بن الخليفة المعتضد ، وكان ترتيبه بين الخلفاء العباسين الثامن عشر ، وتذكر مصادر التاريخ أنه كان في الثالثة عشرة من عمره عندما تقلد منصب الخليفة ، وكان كثير الإنفاق ، وكان في قصره أحد عشر ألف خادم خصي من الروم والسودان وكانت خزينة دولته عامرة بالجواهر النفيسة ، ولصغر سنه كانت أمور الدولة في يد أمه ونسائه وخدمه ، وكن يرتبن شؤون الدولة وهو متفرغ لملذاته وشهواته ،وقد شهد عهده العديد من الفتن الداخلية والخارجية ، ورغم ذلك كانت لخلافته من العز والرفاهية ومظاهرالسلطان ما أسهبت كتب التاريخ في وصفه ، وقد توفي الخليفة عام 320 هـ الموافق 927 م وهو مازال في الخامسة والعشرين من عمره ، في وقت كانت سمعة خلافته ودولته في الخارج عظيمة مما جعل العديد من ملوك وأمراء الدول المجاورة ، يسعون للقائه وإقامة كافة أنواع الصلات معه ،وهذا ما حدا بالمستشرق ( ميشيل كريشتون ) ، أحد محققي ومترجمي بعض أجزاء رسالة إبن فضلان إلي اللغة الإنجليزية ، أن يقول في مقدمته للطبعة الإنجليزية ( كانت بغداد ، مدينة السلام في القرن العاشر ، أكثر مدن الكرة الأرضية حضارة ، وقد عاش بين جدرانها الدائرية الشهيرة أكثر من مليون مواطن وكانت بغداد مركز التأثير التجاري والفكري ، في محيط عام من رغد العيش والأناقة والفخامة ، لقد كانت فيها حدائق معطرة وأشجار وارفة الظلال ، وثروة متراكمة تعود لامبراطورية شاسعة ، لقد كان عرب بغداد مسلمين ، وقفوا أنفسهم بشدة لهذا الدين ، ولكنهم كانوا منفتحين علي شعوب تختلف عنهم في المظهر والمسلك والعقيدة . وفي الواقع ، كان العرب في عالم ذاك الزمان أقل الشعوب إقليمية ، وهذا ما جعلهم شهوداً أفذاذاً للثقافات الأجنبية ).
إنطلاقا من هذه الخلفية الإجتماعية والحضارية المتقدمة ، وكما ذكر أحمد بن فضلان في فاتحة كتابه المشهور ، فقد وصل إلي أمير المؤمنين الخليفة العباسي المقتدر بالله كتاب من (المش بن يلطوار) ملك الصقالبة يطلب منه أن يرسل إليه من يفقهه في الدين ويعرفه شرائع الإسلام ، ويبني له مسجداً وينصب له منبراً ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته ، ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له ، فأجيب إلي ما سأل من ذلك .وبناء علي موافقة الخليفة المقتدر بالله علي مطالب ملك الصقالبة ، فقد تكون وفد رسمي للخليفة من سوسن الرسي مولي نذير الحرمي ، وتكين التركي ، وبارس الصقلبي ، وأحمد بن فضلان ، وكانت مهمة الأخير ضمن الوفد المتوجه إلي ملك الصقالبة ، وكما وصفها هو بنفسه (.. فندبت أنا لقراءة الكتاب عليه ، وتسليم الهدايا ، والإشراف علي الفقهاء والمعلمين ..) ، وقد غادر الوفد بغداد في شهر صفر سنة 509 هـ حزيران 921 م متوجهاً إلي ملك الصقالبة ، أو البلغار كما كانوا يسمون ، نسبة إلي عاصمتهم بلغار علي نهر الفولجا ، حيث تقع الأراضي الروسية اليوم ، وقد إستغرقت رحلته هذه ثلاث سنوات 921 ـ 924 م حيث زار الوفد بلاد العجم والترك ، والصقالبة ، والروس ، وإسكندنافيا ، والخرز ، وعندما عاد الوفد إلي بغداد ، قام بن فضلان بتسجيل وقائع رحلة السنوات الثلاثة في تقرير أو كتاب رسمي هو الذي عرف و اشتهر بإسم رسالة إبن فضلان .
رحلة مخطوطة رسالة ابن فضلان :
عانت مخطوطة هذه الرسالة منذ أن دونها أحمد بن فضلان عام 924 م تقريباً ، أي قبل ألف وثمانين عاماً ، من الترحال والنسخ والضياع والنقل والإضافة في ما لا يقل غرابة عن وقائع الرحلة المدونة فيها ، التي عاشها أحمد بن فضلان شخصياً ، وحسب مقدمة ميتشل كريتون للطبعة الإنجليزية التي أعدها وترجمها ونشرها عام 1976 م عن مؤسسة بنتام بوك : إن أهم المصادر التي جمعت منها الفقرات والمقاطع التي كونت فيما بعد نص رسالة أحمد بن فضلان في ضوء فقدان النسخة العربية الأصلية الكاملة ، هي المصادر التالية ..1 ـ الفقرات والمقاطع المطولة التي أوردها ياقوت الحموي في كتابه الشهير معجم البلدان وكان ينقل عن نسخة أصلية للرسالة لم تصل إلينا ، رغم أن ياقوت ألف كتابه بعد 300 عام .2 ـ جزء آخر من المخطوطة اكتشف في روسيا عام 1817م ونشر باللغة الألمانية من قبل أكاديمية سانت بطرسبرج عام 1923م .3 ـ اكتشف مخطوطان جديدان عام 1878م ، في مجموعة التحف الأثرية الخاصة بسفير بريطانيا السابق في القسطنطينية ، السير جون إمرسون ، ولا يعرف أحد أين وكيف ومتي عثر عليهم أو إذا ما كان السفير اقتناها .4 ـ عثر في عام 1937 م علي نص آخر للمخطوطة باللغة اللاتينية للعصور الوسطي في دير إكسيموس بشمال اليونان .هذا بالاضافة لمخطوط آخر وجد في الدنمارك ، وترجمات عديدة بالسويدية و الألمانية والفرنسية والروسية لمقاطع من المخطوط ، أو دراسات عن المخطوط وصاحبه . الجهد النرويجي في المسألة أن العدد الكبير والمختلف والمتناقض للأصول التي نقلت أجزاء عديدة من مخطوطة رسالة ابن فضلان من مصادر مختلفة بلغات عديدة جعلت ميتشل كريتون يقول: ( .. مهمة تحقيق الصيغ والتراجم الكثيرة آنفة الذكر ، التي يمتد تاريخها إلي أبعد من ألف سنة ، والتي ظهرت باللغات العربية واللاتينية والالمانية والفرنسية والدنماركية والسويدية والإنجليزية ، عمل بالغ الصعوبة ، ولا يحاول القيام بهذه المهمة ، إلا شخص علي جانب عظيم من المعرفة والطاقة ، وقد قام بها مثل هذا الشخص عام 1951 م وهو بيير فراوس الأستاذ المتقاعد الحائز علي لقب الشرف للأدب المقارن في جامعة أوسلو بالنرويج ، الذي قام بجمع كل المصادر المعروفة ، وبدأ مهمة الترجمة الضخمة ، التي استغرقت حتى مماته في عام 1957 م . وقد نشرت أجزاء من ترجمته في صحائف متحف أوسلو الوطني خلال عامي 1959 ـ 1960 م ) .
النسخة العربية :
وفي نفس الفترة تقريبا ، كان هناك جهد مماثل في الجانب العربي لخدمة هذه المخطوطة ، قام به المرحوم الدكتور سامي الدهان ، عضو المجمع العلمي العربي بدمشق ، وقد جمع بعض المخطوطات السالفة التي إطلع عليها ميتشل من النسخة العربية التي اكتشفت عام 1924 م في مشهد بإيران وكان أول من نشرها بالحروف العربية الباحث التركي زكي وليدي طونجان .ولكن المرحوم الدكتور سامي الدهان ، أعد طبعه عربية معتمداً علي صورة لنسخة مشهد لأن التحقيق الذي قام به طوغان التركي ، كان مليئا بالأخطاء وقد بذل الدهان مجهوداً قيماً ، مقارناً عدة نسخ من المخطوطة . ناقلاً مقاطع من كتب الرحلات التي نقلت من المخطوطة ، وتمكن من إصدار الطبعة الأولي العربية لهذه المخطوطة (رسالة ابن فضلان) عن مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1379 هـ الموافقة 1959 م .هذا وقد لاحظ الدكتور حيدر غيبة عند مقارنته طبعة كريتون مع طبعة الدهان والتي عرفت بإسم نسخة مشهد ، أن رسالة إبن فضلان في طبعة كريتون خلت من الفقرات الخاصة بزيارة بلاد الصقالبة التي هي الهدف الأساسي من زيارة ومهمة إبن فضلان ، وكذلك الجزء الخاص بزيارة بلاد الخزر ، وكلاهما موجود ومتضمن في الطبعة العربية ، مشهد ـ الدهان وفي الوقت ذاته خلت الطبعة العربية من زيارة إبن فضلان لبلاد الشمال المعروفة بإسم إسكندنافيا وما تضمنته من مغامرات مثيرة ، ومعلومات وفيرة ، وهذا الجزء يشكل حوالي ثلاثة أرباع حجم الرسالة الأساسي .لذلك قام الدكتور حيدر غيبة ، بجهد جديد ، له قيمته الأكاديمية العالية ، عندما أعاد تجميع وترتيب أجزاء .. رسالة إبن فضلان .. موفقاً بين الطبعة الإنجليزية كريتون والطبعة العربية الدهان مشهد ، ليؤلف منهما طبعة عربية جديدة ، متضمنة كافة الأجزاء والفقرات التي حوتها الرسالة في كافة الطبعات ، مرتباً هذه الأجزاء الترتيب الذي ينسجم مع مجريات الرحلة في الذهاب والإياب ، وقد أصدرها في طبعة عربية جديدة عام 1994 م ، مقدما بذلك خدمة جليلة للمكتبة والقارئ العربيين ، للإطلاع علي رسالة إبن فضلان التي أدهشت الباحثين والقراء الغربيين ، مما حدا بالأستاذ المستشرق كريتون للقول عنه : ( من الواضح أن إبن فضلان نفسه كان شاهداً ذكياً ، إهتم بالتفاصيل اليومية ، وبنفس الوقت بحياة ومعتقدات الشعب الذي إلتقى به ، لقد أذعره كثير مما شاهده ، واعتبره فظاً وفاحشاً أو وحشياً ، لكنه لم يبدد وقته بتوجيه الإهانات له ، فإذا ما أبدي إمتعاضه مرة ، عاد مباشرة إلي ملاحظاته النيرة وكان يروي ما يراه بأقل قدر من الإستعلاء أو الشعور بالتفوق ، لم يحدث لابن فضلان أن تحرز ، بل كانت كل كلماته ترن بالحقيقة ، وكلما أخبر عن إشاعة كان حريصاً علي البوح بأنها كذلك ، هذه السجية من الصدق المطلق ، هي التي تجعل قصته رهيبةً حقاً ) .تلك كانت رسالة إبن فضلان وقصة مخطوطاتها ، فماذا كتب الرحالة الكاتب العربي عن إسكندنافيا قبل ألف وثمانيمن عاما ، ما جعل الغربيين والأسكندنافيين خاصة ، يقدرونها كل هذا التقدير الذي لا نعتقد أنه حصل عليه في عالم المكتبة العربية .
مقتطفات من الرحلة :
بأمر الخليفة العباسي المقتدر بالله سار ابن فضلان في رحلة طويلة و شاقة الى اصقاع من العالم كانت مجهولة و متوحشة. حيث يصف لنا الحياة في روسيا و البلغار و قبائل الفايكنغ قبل إحدى عشر قرناً من الزمان و يروي ما شاهده من عجائب و غرائب تلك البلاد البعيدة بصورة مشوقة جعلت من رحلته من أهم المصادر التي يعتمدها الاوربيين للتعرف على تاريخهم وحياة أجدادهم في تلك الفترة المظلمة من تاريخ أوربا.
رحلة إبن فضلان تحتل أهمية كبيرة و إستثنائية بالنسبة للكتاب و المستشرقين الأوربيين لأنها تصف جانباً من حياة و عادات الأوربيين في ما يسمى بالفترة المظلمة من تاريخ أوربا خاصة وأنها تحتوي على وصف مثير لقبائل الفايكنغ المشهورة و التي تنحدر منها شعوب الدول الإسكندنافية في فترة كانت الوثنية و الجهل هي السمة الرئيسية لهذه الشعوب .
و في رحلته يصف لنا إبن فضلان عادات و تقاليد الشعوب و الأمم التي يمر بها في بلاد الترك و الصقالبة و الخزر (روسيا) والفايكنج الإسكندناف.
بداية الرحلة :
الرحيل عن مدينة السلام :
" لما وصل كتاب (ألمش بن يالطوار) ملك الصقالبة إلى أمير المؤمنين يسأله فيه البعثة ممن يفقهه في الدين ويعرفه شرائع الإسلام ويبني له مسجداً فأجيب إلى ماسأل من ذلك.
وكان السفير له (نذير الحرمي) ولم يكن أمير المؤمنين المقتدر كما يعرف الكثيرين خليفةً قوياً هنا يبدأ ابن فضلان في سرد سبب إنتخابه للرحيل إلى بلاد الصقالبه معرجاً في حديثه إلى ذكر حال الخليفة العباسي المقتدر- وذات يوم بعث بي الخليفة لأسلم رسالة (لإبن قارن) فذهبت إلى داره وطلبت الدخول برسالتي وخاتمي ولم أعرف حتى اليوم مضمون الرسالة ولكن ذلك لا يهم.
ولم يكن التاجر العجوز بالدار- يقصد إبن قارن- فقد كان مسافراً في تجارة فشرحت للحارس مهمتي وقلت له لا بد أن أنتظر عودة سيده لأن الخليفة أمرني أن أسلمه الرسالة يداً بيد وعندئذٍ فتح لى الباب وأدخلني بعد مرور وقت طويل, نظراً لكثرة الأقفال والأرتجة التي كانت على الباب كما هي العادة في أبواب البخلاء, وانتظرت طوال اليوم حتى جُعتُ وظمئت دون أن يقدم لي أحد من خدم التاجر الخبيث ما يسد الرمق, أو يروي الظمأ وفي قيظ الظهيرة, حين هدأ كل شئ من حولي, ونام الخدم, أخذتني سنة من النوم, وحينئذ رأيت أمامي مشهداً ناصع البياض لامرأة شابة وجميلة ومرت الظهيرة بسرعة فإذا بنا نسمع صوت إبن قارن صاحب البيت عائداً من سفره وفي الحال قامت الزوجة وذهبت دون أن تنطق بكلمة, وتركتني أرتب ملابسي في عجلة وكاد يمسك بي لولا ما أخّر دخوله إلى منزله من كثرة الأقفال والأرتاج, ورغم ذلك فقد حدجني بنظرة إرتياب حين وجدني في الغرفة المجاورة, وسألني لماذا كنت هناك وليس بالساحة, فأجبت بأنني كنت جائعاً ومتعباً فبحثت عن الطعام والظل فلم يصدق فشكاني إلى الخليفة الذي أعرف أنه سُرَّ في باطنه, ولكن إضطر إلى إظهار الجد أمام الحاضرين.
وبهذا, حين طلب ملك الصقالبة وفداً من الخليفة أشار عليه إبن قارن الخبيث بإيفادي أنا, وهكذا ارسلت.
فرحلنا من مدينة السلام يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر سنة تسع وثلاثمئة فأقمنا بالنهروان يوماً واحداً……
وهكذا يبدأ بن فضلان في سرد المواقع التي مرّ بها حتى يصل في حديثه عن الأتراك الغزية :
...فلما قطعناه أفضينا إلى قبيلة من الأتراك يعرفون بالغزية وإذا هم بادية, لهم بيوت شعر يحلون ويرتحلون وإذا هم في شقائهم مع ذلك مثل الحمير الضالة لا يدينون لله بدين ولا يرجعون الى عقل ولا يعبدون شيئاً بل يسمون كبراءهم أرباباً. فإذا استشار أحدهم رئيسه في شئ قال له : (يا رب إيش أعمل في كذا وكذا) وأمرهم شورى بينهم, غير أنهم متى إتفقوا على شئ وعزموا عليه جاء أرذلهم وأخسهم فنقض ما أجمعوا عليه.
ولا يستنجون من غائط ولا بول, ولا يغتسلون من جنابة ولا غير ذلك وليس بينهم وبين الماء عمل خاصة في الشتاء ولاتستتر نساؤهم من رجالهم ولا من غيرهم.
وقال بعضهم, وسمعني أقرأ قرآناً, فاستحسن القرآن وأقبل يقول للترجمان قل له (لا تسكت). وقال لي هذا الرجل يوماً على لسان الترجمان : (قل لهذا العربي ألربنا عزَّ وجل إمرأة ؟) فاستعظمت ذلك وسبحت الله واستغفرته, فسبح وإستغفر كما فعلت……
ثم يواصل إبن فضلان حديثه عن هؤلاء القوم حتى يصل في حديثه الى أناس آخرين أسماهم الأتراك الباشغرد :
ووقفنا في بلد قوم من الأتراك يقال لهم الباشغرد, فحذرناهم أشد الحذر وذلك أنهم شر الأتراك وأقذرهم وأشدهم إقداماً على القتل ورأينا طائفة منهم تعبد الحيات, وطائفة تعبد السمك, وطائفة تعبد الكراكي فعرّفوني أنهم كانوا يحاربون قوماً من أعدائهم فهزموهم, وأن الكراكي صاحت وراءهم ففزعوا وإنهزموا بعدما إنتصروا فعبدوا الكراكي لذلك, وقالوا هذا ربنا وهذه فعالاته هزم أعداءنا " فهم يعبدونها لذلك.
الإسكندنافيون :
و أهم جزء في الرسالة هو وصفه لقبائل الروس ( من القبائل الاسكندنافية ) حين قدومها الى بلاد البلغار للتجارة فيقول :ورأيت الروسية - في الأصل إستخدم إبن فضلان كلمة روسية على الإسكندنافيين وهو إسم قبيلة من قبائلهم كما يذكر المحقق يقول إبن فضلان" ورأيت الروسية وقد وافوا في تجارتهم ، ونزلوا علي نهر إتل ، فلم أر أتم أبداناً منهم كأنهم النخل ، شقر حمر ، لا يلبسون القراقط و لا الخفاتين ، ولكن يلبس الرجل منهم كساءاً يشتمل به علي أحد شقيه ، ويخرج إحدي يديه منه ، ومع كل واحد منهم فأس وسيف وسكين ، لا يفارقه جميع ما ذكرناه وسيوفهم صفائح مشطبة إفرنجية ، ومن حد ظفر الواحد منهم إلي عنقه مخضر شجر وصور وغير ذلك وهم أقذر خلق الله , لا يستنجون من غائط ولا بول ولا يغتسلون من جنابة, ولا يغسلون أيديهم من الطعام بل هم كالحمير الضالة يجيئون من بلدهم فيرسون سفنهم بأتل وهو نهر كبير ويبنون على شطه بيوتاً كباراً من الخشب ويجتمع في البيت الواحد العشرة والعشرون والأقل والأكثر, ولكل واحدٍ سرير يجلس عليه ومعه الجواري الروقة للتجار, فينكح الواحد جاريته ورفيقه ينظر إليه وربما اجتمعت الجماعة منهم على هذه الحال بعضهم بحذاء بعض, وربما يدخل التاجر عليهم ليشتري من بعضهم جاريه فيصادفه ينكحها فلا يزول عنها حتى يقضي أربه.
ولا بد لهم في كل يومٍ من غسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماءٍ يكون وأطفسه وذلك أن الجارية توافي كل يومٍ بالغداة ومعها قصعة كبيرة من ماء, فتدفعها إلى مولاها فيغسل فيها يده ووجهه وشعر رأسه, فيغسله ويسرحه بالمشط في القصعة ثم يتمخط ويبصق فيها, ولا يدع شيئاً من القذر إلا فعله في ذلك الماء فإذا فرغ مما يحتاج إليه حَمَلَت الجارية القصعة إلى الذي إلى جانبه, ففعل مثل ما فعل صاحبه. ولا تزال ترفعها من واحد الى واحد حتى تديرها على جميع من في البيت, وكل واحد منهم يتمخط ويبصق فيها ويغسل وجهه وشعره فيها.
ولا بد لهم في كل يومٍ من غسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماءٍ يكون وأطفسه وذلك أن الجارية توافي كل يومٍ بالغداة ومعها قصعة كبيرة من ماء, فتدفعها إلى مولاها فيغسل فيها يده ووجهه وشعر رأسه, فيغسله ويسرحه بالمشط في القصعة ثم يتمخط ويبصق فيها, ولا يدع شيئاً من القذر إلا فعله في ذلك الماء فإذا فرغ مما يحتاج إليه حَمَلَت الجارية القصعة إلى الذي إلى جانبه, ففعل مثل ما فعل صاحبه. ولا تزال ترفعها من واحد الى واحد حتى تديرها على جميع من في البيت, وكل واحد منهم يتمخط ويبصق فيها ويغسل وجهه وشعره فيها.
ومن رسم ملك الروس أن يكون معه في قصره أربعمئة رجل من صناديد أصحابه واهل الثقة عنده فهم يموتون بموته ويقتلون دونه ومع كل واحد منهم جارية تخدمه وتغسل رأسه, وتصنع له ما يأكل وما يشرب, وجارية أخرى يطؤها, وهؤلاء الأربعمائة يجلسون تحت سريره, وسريره عظيم مرصع بنفيس الجوهر. ويجلس معه على السرير أربعون جارية لفراشه, وربما وطئ الواحدة منهن بحضرة أصحابه الذين ذكرنا ولا ينزل عن سريره, فإذا أراد قضاء حاجة قضاها في طشت, وإذا أراد الركوب قدموا دابته إلى السرير فركبها منه.وإذا أراد النزول قدم دابته حتى يكون نزوله عليه. وله خليفة يسوس الجيش ويواقع الأعداء ويخلفه في رعيته.
وهذه عادة أهل الشمال كما شاهدتها بعيني".
و يستمر إبن فضلان بوصف هؤلاء القوم و عاداتهم و لعل أطرف و أغرب جزء من مشاهداته هو الجزء المتعلق بالموتى و كيف يتم حرق جثثهم بعد الموت في مراسم و طقوس تصاحبها تضحية بشرية :
"وإذا مرض منهم واحد , ضربوا له خيمةً ناحيةً عنهم و طرحوه فيها و جعلوا معه شيئاً من الخبز و الماء و لا يقربونه و لا يكلمونه , بل لا يتعاهدونه في كل أيام مرضه , لا سيما إن كان ضعيفاً او مملوكاً , فإن بريء قام و رجع إليهم , و إن مات أحرقوه , فأن كان مملوكاً تركوه على حاله تأكله الكلاب و جوارح الطير".
" أما إذا مات أحدهم فالعاده عندهم أن يحرقوه , فإذا كان فقيراً يعملون له سفينة صغيرة و يجعلونه فيها و يحرقونها وإذا كان غنياً و لديه خدم و جوارٍ فإن طقوس حرقه و إشعال النار فيه تتناسب مع يسره و غناه ".
و قد شهد إبن فضلان بنفسه موت رجل عظيم منهم و تابع طقوس حرقه من البداية فهو يقول :
" فلما مات ذلك الرجل الذي قدمت ذكره قالوا لجواريه : من يموت معه ؟ فقالت إحداهن : أنا , فوكلوا بها جاريتين تحفظانها و تكونان معها حيث سلكت , حتى أنهما ربما غسلتا رجليها بأيديهما و أخذوا في شأنه و قطع الثياب له و إصلاح ما يحتاج اليه , و الجارية في كل يوم تشرب و تغني فرحة مستبشرة فلما كان اليوم الذي يحرق فيه هو و الجارية حضرت الى النهر الذي فيه سفينة فإذا هي قد أُخرجت و جُعل لها أربعة أركان من الخشب ثم مُدت حتى جُعلت على ذلك الخشب , و أقبلوا يذهبون و يجيئون و يتكلمون بكلام لا يفهم , وهو بعد في قبره لم يخرجوه , ثم جاءوا بسرير فجعلوه على السفينة و غشوه بمساند الديباج الرومي ثم جاءت إمرأة عجوز يقال لها (ملك الموت) ففرشت على السرير الفرش الذي ذكرنا , وهي التي وليت خياطته و إصلاحه , وهي التي تقتل الجواري , فرأيتها ساحرة ضخمة مكفهرة فلما وافوا قبره نحوا التراب عن الخشب و نحوا الخشب وإستخرجوه في الإزار الذي مات فيه , فرأيته قد إسود لبرد البلد , و قد كانوا جعلوا معه في قبره نبيذا و فاكهة و طنبوراً فأخرجوا جميع ذلك , فأذا هو لم ينتن و لم يتغير منه شيء غير لونه , فألبسوه سراويل و راناً و خفاً و قرطقاً و قفتان ديباج له أزرار ذهب , و جعلوا على رأسه قلنسوة ديباج سمورية , و حملوه حتى أدخلوه القبة التي على السفينة , و أجلسوه على المضربة , و أسندوه بالمساند و جاءوا بالنبيذ و الفاكهة و الريحان فجعلوه معه. و جاءوا بخبز و لحم و بصل فطرحوه بين يديه , و جاءوا بكلب فقطعوه نصفين و القوه في السفينة , ثم جاءوا بجميع سلاحه فجعلوه إلى جانبه , ثم أخذوا دابتين فأجروهما حتى عرقتا ثم قطعوهما بالسيف و ألقوا لحمهما في السفينة , ثم جاءوا ببقرتين فقطعوهما أيضاً و القوهما فيها , ثم أحضروا ديكاً و دجاجةً فقتلوهما و طرحوهما فيها والجارية التي تريد أن تقتل ذاهبةً راجعةً تدخل قبة من قبابهم فيجامعها صاحب القبة و يقول لها " قولي لمولاك إنما فعلت هذا من محبتك ". فلما كان وقت العصر من يوم الجمعة جاءوا بالجارية إلى شيء قد عملوه مثل ملبن الباب فوضعت رجليها على أكف الرجال و أشرفت على ذلك الملبن و تكلمت بكلام لها فأنزلوها ثم أصعدوها ثانيةً ففعلت كفعلها في المرة الأولى ثم أنزلوها و أصعدوها ثالثة ففعلت فعلها في المرتين ثم دفعوا اليها دجاجة فقطعت رأسها و رمت به و أخذوا الدجاجة فألقوها في السفينة. فسألت الترجمان عن فعلها فقال : " قالت في أول مرة أصعدوها : ها أنذا أرى أبي و أمي و قالت في الثانية : ها أنذا أرى جميع قرابتي الموتى قعوداً و قالت في الثالثة : ها أنذا أرى مولاي قاعداً في الجنة , و الجنة حسنة خضراء , و هو يدعوني فأذهبوا بي إليه " فمروا بها نحو السفينة فنزعت سوارين كانا عليها و دفعتهما إلى المرأة التي تسمى ملك الموت و هي التي تقتلها و نزعت خلخالين كانا عليها و دفعتهما إلى الجاريتين اللتين كانتا تخدمانها , و هما إبنتا المرأة المعروفة بملك الموت ثم أصعدوها إلى السفينة ولم يدخلوها القبة , و جاء الرجال و معهم التراس و الخشب و دفعوا إليها قدحاً من النبيذ فغنت عليه و شربته , فقال لي الترجمان : " إنها تودع صويحباتها بذلك, ثم دفع إليها قدح آخر فأخذته و طولت الغناء و العجوز تستحثها على شربه و الدخول إلى القبة التي فيها مولاها , فرأيتها و قد تبلدت و أرادت دخول القبة فأدخلت رأسها بينها و بين السفينة فأخذت العجوز رأسها و أدخلها القبة و دخلت معها. وأخذ الرجال يضربون بالخشب على التراس لئلا يسمع صوت صياحها فيجزع غيرها من الجواري و لا يطلبن الموت مع مواليهن , ثم دخل إلى القبة ستة رجال فضاجعوها واحداً بعد الآخر ثم أضجعوها إلى جانب مولاها و أمسك إثنين برجليها و إثنين بيديها و جعلت العجوز التي تسمى ملك الموت في عنقها حبلا مخالفاً و دفعته إلى إثنين ليجذباه و أقبلت و معها خنجر عريض النصل , فأقبلت تدخله بين أضلاعها موضعاً موضعاً و تخرجه و الرجلان يخنقانها بالحبل حتى ماتت ثم وافى أقرب الناس إلى ذلك الميت فأخذ خشبة و أشعلها بالنار ثم مشى القهقري قفاه إلى السفينة ووجهه إلى الناس , و الخشبة المشتعلة في يده ويده الأخرى إلى خلفه وهو عريان, حتى أحرق الخشب المعبأ الذي تحت السفينة من بعدها وضعوا الجارية التي قتلوها في جنب مولاها".
و قد لاقت رحلة إبن فضلان كما ذكرنا رواجا كبيرا في اوربا وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي تحت عنوان ( المحارب الثالث عشر ) من بطولة الممثل الامريكي الشهير أنتونيو بانديراس .
ملصق الفيلم
إقرأوا الكتاب
قد يعتقد البعض أن القصة غير حقيقية والسبب هو مايتعلق بالأساطير والغيلان وهذا الذي يُعتقد بأنه يثبت عدم صحتها هو نفسه مايثبت صحتها فما يتعلق بمطاردة الغيلان أكلة لحوم البشر فهو صحيح فهم بقايا من إنسان النياندرثال وقد ثبت من النقوش والكهوف أنه تبقى منهم عدد من القبائل الصغيرة في السويد وبعض أجزاء أوروبا في وقت الرواية ولا ننسى بأن أحداث الرواية حصلت قبل حوالي ألف ومائة سنة وقد ثبت بأن هذه الجماعات قد تعودوا على أكل لحوم البشر وكانت زعيمتهم دائماً إمرأة كبيرة في السن يقدسونها حسب ما أُكتشف من عاداتهم وحسب ماثبت من بقايا الطواطم والتماثيل لشكل العجوز التي يقدسونها وكل هذا تثبته الرواية كما وأن بن فضلان المذكور شخصية معروفة وسلسل نسبه إلى عدد من الجدود وكذلك الخليفة الذي بعثه وكان مبعوثاً في مهمة رسمية وقد أسره الفايكنج وهو في طريقه وأخذوه معهم للدنمارك وللكهوف المحيطة بأستكهولم في السويد وكان الفايكنج وثنيون ومعتقداتهم فيها الكثير من الأساطير ونظراً لوحشية الجماعات التي كانوا يطاردونهم ونظراً للضباب الكثيف الذي يملاء أجواء مناطقهم وإستغلال هؤلاء المتوحشون للضباب والظلام لشن هجماتهم فقد سماهم الفايكنج بالغيلان أي الذين يخرجون في الضباب والرواية قرأتها قبل سنين وهي تروي كل ماعرف عن أساطير الفايكنج بدقة وأمانة والراوي يتضح من أسلوبه بأنه شخص متدين ودقيق وأمين ولديه دقة الواصف وأسلوب الكاتب وأمانة الراوي وحرفية المؤرخ والحس المسؤل في الملاحظة والكتابة والتوثيق والنقل فالرواية صحيحة وليس عليها أي غبار أو شك وكاتبها شخص معروف تميز بلأمانة والإحساس بمسؤلية توصيل المعلومة ونقلها بدقة للأجيال اللاحقة .
0 التعليقات:
إرسال تعليق
نرحب بجميع وجهات النظر
فلا تبخلوا بتعليقاتكم