25‏/11‏/2018

مدينة غيلان في عودة سدير


مدينة غيلان في عودة سدير إحدى المراكز الرئيسية لطريق البخور..

بلدة عودة سدير إحدى بلدات إقليم سدير في وسط منطقة نجد. تبعد عن مدينة الرياض العاصمة حوالي ١٥٠كم شمالاً، وتقع على وادي سدير المعروف قديماً بـ"الفقي" ويجاورها من الغرب وادي "أراط". وتعتبر من أقدم بلدات سدير ونجد والمملكة العربية السعودية عموماً. عرفت العودة قديماً باسم جماز، حيث ورد ذلك الاسم في عدد من المصادر القديمة..
ذكر الحسن بن أحمد الهمذاني في كتابه صفة جزيرة العرب: (ثم تقفز من العتك في بطن ذي أراط تستند في عارض الفقي فأول قراه جمَّاز... ثم تمضي في بطن الفقي وهو وادٍ كثير النخل والآبار)، ويسترسل الهمداني في وصف قرى هذا الوادي إلى أن يقول: (وكذلك جماز سوق في قرية عظيمة أيضاً).
وحدد لغدة الأصفهاني موقعها بقوله: (والفقء بالكرمة والكرمة باليمامة)، ويقصد أن البلدة تقع في الجزء الشمالي الشرقي من اليمامة ووادي الفقي يقع في هذا الجزء من اليمامة والعودة في تقع أسفل الوادي..
وتشمل عودة سدير أحياء البلدة المأهولة، ومدينة غيلان، وجمَّاز، والقرناء، ومسافر، والقرناء هي أقدم الأحياء حيث تشتمل على آثار مطمورة تحت الأرض، ويلي القرناء في القدم جمَّاز وهو عبارة عن أساسات أبنية متهدمة وأحجار متناثرة، ومن الأحياء المندثرة مسافر، وعلى مسافة ألف متر من جمّاز من الناحية الغربية تقع مدينة غيلان، وتقع مدينة غيلان على مرتفع يقع جنوب بلدة عودة سدير، وتشتمل على قصر كبير يبلغ طوله مئة متر وعرضه سبعين متر، وبداخل القصر بئر محفورة في الحجر، وللقصر ملحقات خارجية، ولا زالت أجزاء من جدرانه المبنية بالحجر شامخة. ويعتبر قصر غيلان من أقدم الآثار الموجودة في منطقة نجد، ويتداول أهل البلدة حوله عدداً من الأساطير منها: أن البئر تحتوي على كنوز تحرسها الجن، وأن كل مَن حاول حفرها وإخراج الكنوز منها تصدى له الجن فمنعوه من ذلك، وأن غيلان أوصى الجن بحراسة قصره وكنوزه لأن الجن أخواله، وأنه صاحب أسفار لا تنقطع حتى اشتهر عنه أنه يبحث عن نهاية الأرض وأطرافها، فأطلق المثل القائل: (مات غيلان ما لحق للدنيا طرف). وأنه رزق بابنة وهو مسافر فلما عاد عرفها فقتلها، وغير ذلك من الأساطير التي تتسم بالجهل والسذاجة ويتناقلها العامة البسطاء في إطار محاولاتهم تفسير وجود تلك المدينة المشيدة التي تضرب جذورها في عمق التاريخ..
ولكشف أسرار تلك المدينة وتحديد زمن بنائها ومعرفة هوية بانيها يجب البحث عن الظروف التي كانت سائدة في منطقة نجد وعموم الجزيرة العربية في الزمن المفترض لبنائها والذي يتناقل العامة بأنه كان قبل ظهور الإسلام، حيث كانت الممالك في جنوب الجزيرة العربية في أوج قوتها واتساع نفوذها، وكانت تزدهر العلاقات التجارية بين ممالك سبأ وحمير وقتبان ومعين وحضرموت من جهة وبين حضارات ما بين النهرين والهلال الخصيب كالآشوريين والكنعانيين والفينيقيين والإغريق والمصريين من جهة أخرى، وكانت الجزيرة العربية نقطة اتصال بين حضارات الشرق والغرب، وممر تجاري لنقل البضائع بين الهند واليونان وروما؛ ولذلك أقامت الممالك القديمة في جنوب الجزيرة العربية عدداً من المراكز والمستوطنات والقلاع والحصون والحاميات العسكرية لتأمين القوافل التجارية وحماية حركة التجارة على طول الطرق التي تربط جنوب جزيرة العرب بشمالها، ومنها طريق التجارة القديم المسمى "طريق البخور" وهو معبر تجاري دولي يربط بين الشرق والغرب، يمتد من سواحل بحر العرب إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط مروراً بالجزيرة العربية، وتستخدم الجمال لنقل البضائع على ذلك الطريق وتفرعاته..
ومن المحطات الرئيسية لطريق البخور مدينة "نجران" حيث يتفرع منها إلى ثلاثة فروع ومدينة "العلا" حيث يتفرع منها إلى ثلاثة فروع..
وينقسم طريق البخور إلي طريقين رئيسيين: أحدها يتجه عبر نجد إلى العراق وفارس وشمال الجزيرة العربية، والآخر يتجه عبر الحجاز إلى منطقة العلا شمال غرب الجزيرة العربية ومنها إلى مدينة البترا ثم إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط..
وتنقل القوافل العابرة عبر طريق البخور عدداً من المنتجات والبضائع ومنها البخور واللبان والتوابل وشتى منتجات الشرق لإيصالها إلى الغرب..
يبدأ طريق البخور من ميناء "قِنا" على ساحل بحر العرب مروراً بعاصمة قتبان "تمنع" ومنها إلى "مأرب" ثم إلى "نجران"..
ومن نجران يتفرع إلى ثلاثة فروع:
فرع يتجه إلى "هجر" وسواحل الخليج العربي شرق الجزيرة العربية..
فرع يتجه إلى "مكة" غرب الجزيرة العربية ومنها إلى "يثرب" ثم إلى "العلا" شمال غرب الجزيرة العربية..
فرع يتجه إلى مدينة "الفاو" في "وادي الدواسر" جنوب نجد ثم إلى "مدينة غيلان" في سدير وسط نجد..
ثم يتفرع إلى فرعين:
فرع يتجه لبلاد الرافدين..
فرع يتجه إلى العلا حيث عاصمة مملكة دادان شمال الجزيرة العربية ليلتقي فيها بالفرع القادم عبر الحجاز..
ومن العلا يتفرع طريق البخور إلى ثلاثة أفرع:
فرع يتجه إلى المدن الفينيقية في الشام على سواحل البحر الأبيض المتوسط عبر البتراء..
فرع يتجه إلى المدن الكنعانية في فلسطين على سواحل البحر الأبيض المتوسط عبر البتراء..
فرع يتجه إلى مصر عبر سينا..
وعلى طول تلك الطرق التي تمتد آلاف الكيلومترات بنيت الحاميات التي أصبحت مستوطنات ثم تحولت بعض الحاميات والمستوطنات إلى نواة لممالك مزدهرة كمملكتي دادان ولحيان، بينما ازدهر بعضها لمدة محدودة ثم تحولت إلى أنقاض أثرية كمدينة غيلان في عودة سدير..
ومدينة تمنع عاصمة مملكة قتبان كانت مركزاً مهماً للقوافل على طريق البخور التجاري القديم الذي كان يمتد من الهند حتى سواحل البحر الأبيض المتوسط وصولاً إلى روما واليونان مروراً باليمن ونجد والحجاز والعلا والبتراء..
وعرب الجزيرة العربية هم رواد التجارة عالمياً وأقدم ممارسيها تاريخياً؛ حيث استأنسوا الجمال قبل آلاف السنين وكان ذلك كصناعة سفن وقطارات الشحن في العصر الحديث، وقبل آلاف السنين كان يوجد في الجزيرة العربية مئات الطرق التجارية منها ١٧ طريق تجاري رئيسي أشهرها طريق البخور..
والقتبانيين والمعينيين من أشهر المشتغلين بالتجارة باستخدام الجمال التي كانت عماد النقل البري، وكانت مراكزهم وحامياتهم التجارية تنتشر على امتداد طريق البخور الطويل، وفي تمنع عاصمة مملكة قتبان لا تزال بقايا مسلة قتبانية نقشت على جوانبها أحكام التجارة تنتصب في سوق المدينة كشاهد على ازدهار تلك العاصمة التجارية..
ومن أشهر ملوك مملكة قتبان:
شهر غيلان بن أبشبم.
بعم بن شهر غيلان.
ورويل غيلان بن يهنعم.
يدع أب غيلان..
حكم في النصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد، وهو أول من سك العملة الذهبية، وبنى مدينتي غيلان في جنوب ووسط الجزيرة العربية..
وتدل عدد من الدلائل على أن مدينة غيلان في عودة سدير كانت إحدى المحطات الرئيسية على طريق البخور، بناها الملك القتباني "يدع أب غيلان" في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، وطريق البخور إحدى طرق التجارة التي تربط جنوب الجزيرة العربية بشمال الجزيرة العربية والعراق والشام ومصر..
ويطلق على أطلال قصر غيلان وما حوله مدينة غيلان، ويتناقل أهل عودة سدير منذ القديم أن مدينة غيلان بنيت في العصور الجاهلية، وأن بها معبداً لا يتجه محرابه إلى مكة، وأن القصر بناه شخص يدعى غيلان، وأن غيلان كان كثير الأسفار بعيد النجعة..
ويتضح من حجم القصر وموقعه أنه كان مركزاً يهيمن على إقليمي سدير والوشم، ففي العودة مدينة غيلان وفي أشيقر صندوق غيلان وهو أثر لبناء فوق جبل مشرف على أشيقر، ولم ينتشر ذلك الاسم إلا ولغيلان نفوذ واسع وسلطة كبيرة على تلك المناطق..
وقد أورد ياقوت الحموي في معرض حديثه عن الفقي وهو اسم العودة القديم قول السكوني: (من خرج من القريتين متياسراً -يعني القريتين اللتين عند النباج- فأول منزل يلقاه الفقي، وبها منبر، وقراها المحيطة تسمى الوشم والوشوم، ومنبرها أكبر منابر اليمامة).
مما يدل على أن العودة كانت من أكبر بلدات نجد، وأنها كانت عامرة ومزدهرة، وأن ذلك القصر كان محطةً تجارية هامة ومركزاً رئيسياً على إحدى طرق التجارة ومقراً محورياً لإدارة شؤون المنطقة..
وقد عثر في مدينة غيلان على جرار فخارية متقنة الصنع عليها رسومات جميلة ذات ألوان زاهية، وتعبر تلك الجرار حسب وصفها على صناعة متقنة وقيمة فنية ومادية تدل على تأثر من صنعها وانتماء من امتلكها لحضارة راقية ومتطورة ومزدهرة، ونتيجةً لجهل أبناء البلدة الصغار بقيمة تلك الآثار فقد تم تكسير بعضها برميها بالحجارة وهي فوق الرفوف الحجرية، فيما نهب ما تبقى منها، مع الأمل أن تكون الجهات المختصة قد عثرت على بعضها أو أجزاء منها لما لها من قيمة أثرية وتاريخية مهمة..
وبناءً على تلك الحقائق التاريخية والمكتشفات الأثرية فمن الراجح حسب اجتهادي الشخصي أن "مدينة غيلان" في عودة سدير قد بنيت في حدود منتصف القرن الثاني قبل الميلاد  -قبل حوالي ٢٢٠٠ عام- كمركز للمنطقة وكمحطة رئيسية على طريق التجارة بين مملكتي قتبان ودادان. وأرجح بأن مدينة غيلان حملت اسم الملك الذي بناها وهو الملك "يدع أب غيلان" الذي ورد في النقوش القديمة بأنه رمم كذلك مدينته "ذغلين" أو "ذو غيلان"، ومدينة "ذغيلن" أو"غيلان" هي مدينة أخرى بنفس الاسم أنشئت في عهد "يدع أب غيلان" في حدود القرن الثاني قبل الميلاد..
و"يدع أب غيلان" ملك من ملوك قتبان وهي مملكة قديمة قامت في جنوب الجزيرة العربية في حدود العام ٥٠٠ قبل الميلاد، وعاصمتها مدينة تمنع، وكانت لها علاقات تجارية بممالك دادان ولحيان شمال الجزيرة العربية. ويدع أب غيلان هو أحد أعظم ملوك مملكة قتبان، وهو أول من سك العملة الذهبية..
وقد تم العثور على نقش ورد فيه أن الملك غيلان أجرى كذلك ترميمات في مدينة "ذو غيلان" "غيلان"، وكانت مدينة "ذغيلم" "غيلن" "غيلان" من المدن التي أنشئت في عهد الملك "يدع أب غيلان"، بناها في القرن الثاني قبل الميلاد عند معبد "عم ذي لبخ" الشهير الكائن في موضع "ذغيلم"..
ويردد أهل العودة مثل قديم عن "غيلان" باني "مدينة غيلان" يقول: (مات غيلان ما لقى للدنيا طرف).
مما يعني أن غيلان المقصود كان ملكاً عظيماً ذا ملك شايع ونفوذ واسع ويقوم برحلات طويلة ويقود غزوات بعيدة..
ومن الدلائل على أن "مدينة غيلان" في "عودة سدير" كانت محطة بناها القتبانيين على طريق البخور لخدمة وحماية قوافلهم التجارية ما يلي:
١- الآثار المكتشفة في المدينة ومنها جرار فخارية تعبر عن حرفية متقنة وفن راقي ينبثق من حضارة متطورة ومزدهرة.
٢- الزمن التقديري الذي بنيت فيه تلك المدينة والذي يتوافق مع العصر الذي ازدهرت فيه التجارة على طول "طريق البخور" الشهير في عصور أوج ازدهار الممالك المعينية والقتبانية في جنوب الجزيرة العربية والدادانية واللحيانية في شمال الجزيرة العربية.
٣- وقوع المدينة في قلب نجد وسط الجزيرة العربية على طريق البخور الذي يربط جنوب الجزيرة العربية بشمالها وبالعراق والشام ومصر.
٤- سيطرة الملك "يدع أب غيلان" خلال تلك الفترة على جميع طرق التجارة في الجزيرة العربية من اليمن إلى العراق والشام.
٥- اكتشاف نقش قديم يرد فيه بناء الملك "يدع أب غيلان" لمدينة أخرى في مملكة قتبان تحمل نفس الاسم "ذو غيلان" قبل حوالي (٢٢٠٠) عام.
٦- ‏تناقل أهل عودة سدير منذ القديم أن في مدينة غيلان معبداً لا يتجه محرابه إلى مكة، وأن المدينة بنيت في العصور الجاهلية ما قبل الإسلام، وأن القصر بناه شخص يدعى غيلان.
٧- ترديد أهالي العودة مثل قديم عن "غيلان" باني "مدينة غيلان" يقول: (مات غيلان ما لقى للدنيا طرف).
مما يعني أن غيلان المقصود كان ملكاً عظيماً ذا نفوذ واسع ويقوم برحلات طويلة ويقود غزوات بعيدة.
٨- حجم القصر وموقعه الذي يدل على أنه كان مركزاً يهيمن على إقليمي سدير والوشم، ففي العودة مدينة غيلان وفي أشيقر صندوق غيلان وهو أثر لبناء فوق جبل مشرف على أشيقر، ولم ينتشر ذلك الاسم إلا وغيلان شخصية ذات نفوذ كبير وله سلطة واسعة على تلك المناطق.
٩- ما أورده ياقوت الحموي في معرض حديثه عن الفقي وهو اسم العودة القديم حيث أورد قول السكوني: (من خرج من القريتين متياسراً -يعني القريتين اللتين عند النباج- فأول منزل يلقاه الفقي، وبها منبر، وقراها المحيطة تسمى الوشم والوشوم، ومنبرها أكبر منابر اليمامة).
مما يدل على أن العودة كانت من أكبر بلدان نجد، وأن البلدة كانت مزدهرة، وأن ذلك القصر كان محطةً تجارية هامة ومركزاً رئيسياً على إحدى طرق التجارة المزدهرة ومقراً محورياً لإدارة شؤون المنطقة.
١٠- أحد الفروع الرئيسية لطريق البخور يمر بالمدن التالية: مأرب، وادي الدواسر، عودة سدير، القصيم؛ ولذلك الخط دلالات فيما يتعلق ببعض الهجرات القبلية لعشائر وأسر تعود لأصول دوسرية أزدية قحطانية خرجت من مأرب إلى السراة ثم إلى وادي الدواسر ثم إلى وسط نجد.
جميع تلك الحقائق والشواهد والدلائل والاعتبارات والملاحظات لا يمكن إهمالها وليس لها بديلاً أكثر منطقيةً وإقناعاً، وهي استنتاجات أرى أنها أقرب للواقع من استنتاجات بعض المؤرخين وروايات العامة التي تزعم أن الذي شيد تلك القلعة الحصينة ذات المحتويات القيمة هو مجرد بدوي فقير وراعي أغنام بسيط يتنقل بين كثبان صحراء الدهناء وشاعر عاش في عهد الدولة الأموية اسمه غيلان بن عقبة الملقب بـ"ذو الرمة"، وهو استنتاج ضعيف يعتمد على توظيف لدلالة الاسم فقط!

محمد بن إبراهيم الحسين

ملاحظة:
المقال كتبته وأوردت فيه معلومات غير مسبوقة وفقني الله بفضله للوصول إليها باجتهادي الشخصي، ولم يسبقني لتلك المعلومات أحداً من المختصين من مؤرخين وباحثين أو من العامة خلال ما يقارب الفي عام!!

0 التعليقات:

إرسال تعليق

نرحب بجميع وجهات النظر
فلا تبخلوا بتعليقاتكم