13‏/01‏/2010

ما بعد هابل

تلسكوبي (هيرشل وبلانك)





في محاولة أوروبية لفهم نشأة وتطور الكون في أكثرِ مهمـّات وكالة الفضاء الأوروبية طـُموحا ، أقلع صاروخ "آريان 5" يوم 14 مايو الجاري من قاعدة كورو بغويانا الفرنسية، وعلى متنه القمران الصناعيان "هيرشل" و"بلانك" اللذان جُهزا بمُعدات غير مسبوقة بُغية التدقيق في الكـون لعلهما يتيحان فهما أفضل لنشأته وتطوره.

بفضل مرآته التي يبلغ قطرها 3,5 متر (مقابل 2,4 للمنظار الفضائي "هابل")، أصبح هيرشل أكبر تلسكوب على الإطلاق الذي يُرسل إلى الفضاء. لكن على عكس جهاز وكالة الفضاء الأمريكية ناسا، لن ينظر الجهاز الأوروبي إلا في الأشعة تحت الحمراء، وهي جزء من ضوء الطـّيف الذي لا يمكن أن تراه العيـن.



وفي حين ينبعث من النجوم، كشمسنا، ضوءٌ مرئي أساسا، تأتي الأشعة تحت الحمراء من أجسـام أشدَّ برودة بكثير، مثل النجوم التي لا تزال في طور التكوين، والأقزام البنية (وهي كرات من الغاز لم تصل إلى الكتلة الحرجة لكي يوقد الضغط في قلبها النار الحرارية النووية) أو ... الكواكب.
وتتميز الأشعة تحت الحمراء بالقدرة على اختراق غــيوم الغاز والغبار حيث تُولد النجوم والكواكب، والتي تُخفي مرحلة التكوين هذه عن عـين أجهزة التلسكوب التقليدية.



نــافــذة جـــديــدة
هيرشيل سوف يفحص إذن هذه المناطق تحديدا لرؤية عملية تشكيـل نـُظم كواكب جديدة، والتي نكتفي حاليا بالتكهـن بها انطلاقا من نماذج رياضية.
"وكأننا نفتح نافذة جديدة"، يقول بحماس أرنولد بيز، عالم الفيزياء الفلكية في المعهد الفدرالي التقني العالي بزيورخ، قبل أن يضيف: "هذا من شأنه أن يـُساعدنا على فهم أصل وتطور ونمو المنظومة الشمسية الخاصة بنا، لشمسنا، وللكواكب والأقمار والمذنبات ولكل (الأجسام) المُتبقية".



هيرشل يستطيع أيضا الكشف عن آثار جزيئات الماء الوفيرة للغاية في هذه المناطق حيث تتشـكّل النجوم. "فالماء يتصرف كنوع من الغراء عندما تلتصق حبيبات الغبار الكوني لتشكيل أجسام سماوية جديدة. لذلك نحن نعتقد أنه من المفيد دراسة المـاء حتى قبل أن تظهر الحياة"، مثلما يشرح البروفيسور بيز الذي اشتغل معهده على تطوير جهاز التحليل الطيفي لـهيرشل.
وإلى ما أبعد زمانا ومكانا، سيـُمعن هيرشل النظر أيضا في المجرات الشابة البعيدة عنـّا بمليارات السنين الضوئية، والتي تشكلت بعد وقت قصير من الانفجار الكوني العظيم.



ونظراً لتوسـُّع الكون، ووفقا لما يُعرف بـ "تأثير دوبلر-فيزو"، يتجه بقوة ضوء هذه "العجلات" الضخمة - المكونة من مئات البلايين من النجوم – نحو اللون الأحمر، وبالتالي يستطيع التلسكوب الذي يعمل بالأشعة تحت الحمراء رؤيتها بوضوح أفضل من أي جهاز آخر.



أبـرد نقــطة في الكون
وليس هنالك مجال للقيام بملاحظات من هذا القبيل إنطلاقاً من أرضنا لأن غلافنا الجوي يصد الجزء الأكبر من الأشعة تحت الحمراء. ولا مجال أيضا للدّوران حول الأرض والخضوع لتغييرات اللمعان المفاجئة لشروق وغروب الشمس.
ولإنجاز مهمتهما، سيبحث هيرشل وبلانك عن الهدوء على بـُعد 1,5 مليون كيلومتر من الأرض، حيث سيحومان حول ما يُسمى بـ "لاغرانج L2" (أي المنطقة حيث تنعدم قوة جاذبية كوكبنا وقوة جاذبية الشمس)، وسيديران ظهرهما دائما لهذين النجمين.




وستحتاج هاتان الحمولتان (علما أن هيرشل يزن 3,4 طن بأبعاد 7,5 متر على 4,5، وبلانك: 2 طن تقريبا بأبعاد 4 متر على4) لمدة شهرين تقريباً لبلوغ مقصدهما والشـروع في مسح السماء.




لكن المقراب الذي يعمل بالأشعة تحت الحمراء لا يحتاج للظـُّلمة فحسب للعمل بشكل أفضل، بل أيضا لبـرد زمهرير، لأنه حتى في حرارة تتجاوز ببضع درجات الصفر المُطلق، تُولـِّد حرارته الخاصة موجات تحت الحمراء ستتعارض مع الموجات التي يقوم بملاحظتها.
لذلك زُوّد المنظاران بمئات اللترات من الهيليوم السائل لتبريدهما. وفي هذا المجال، يعود اللقب إلى تلسكوب بلانك الذي سيعمل بدرجة حرارة تفوق بـ 0,1 درجة مستوى –273,15 درجة مئوية التي لا يمكن النزول تحتها. وهو ما سيجعل من قلب هذا التلسكوب "أبرد مكان في الكون".



أرنــب على القمر
بلانك، الذي يختلف عن هيرشل في طريقة عمله – إذ يعتمد على مرآة "صغيرة" يبلغ قطرها 1,5 مترا، وعلى أجهزة استشعار تلتقط الموجات الدقيقة (بين الأشعة تحت الحمراء والموجات اللاسلكية) – يقوم أيضا بمهمة مُختلفة: فهو كُلـِّف بالتقاط الإشعاع الأحفوري، وهو ليس سوى صدى الانفجار الكبير.
لذلك، سوف يقوم بمسح منهجي للقُبــّة السماوية بالدّوران حول نفسه بحثا عن أيّ تغييرات لدرجة الحرارة، وذلك باستخدام أدوات شديدة الحساسية لدرجة أنه بإمكانها، حسب تعبير وكالة الفضاء الأوروبية، أن "ترى"، انطلاقا من الأرض، الحرارة المتولدة عن أرنب إذا ما وُضع.. على سطح القمر حيث تسجل درجة حرارة لا تتجاوز -180!



ضوء أولى العــُصور
وبعد مرور 380000 سنة من بدايات الزمـن، لا يزال الكون الذي يواصل تكوينه مجرد ركام غير شفاف من الجسيمات الأولية؛ ركاماً كثيفاً جداً ومـُركزاً جداً وساخناً جداً. فعندما تصل إلى مرحلة معينة من التوسع والتبريد (3000 درجة مئوية)، تسمح هذه المادة للفوتونات (حبيبات ضوء صغيرة) بالإفلات، ليتوهج الكون، إن صح التعبير.
هذه البقايا من ضوء العصور الأولى، التي بردت كثيراً وتحولت إلى موجات دقيقة، هي التي لازال بإمكاننا ملاحظتها اليوم، بعد أكثر من 13 مليار سنة، في كل مكان من شســاعة السماء. ومن ثم جاءت تسميتها "إشعاع الخلفية الكونية" أو "الإشعاع الأحفوري" الذي يعتبرُ وجوده من قبل فئة واسعة من العلماء أفضل دليل على صحة نظرية الانفجار الكبير.
وسيقوم تليسكوب بلانك بوضع خريطة له. ومن خلال قياس كل تغيير لدرجات الحرارة، يُفترض أن يُسـَلـِّم للعلماء معلومات يفوق حجمها بعشر أو خمسة عشر مرة ما وصـَلنا من آخر التلسكوبات التي سبقته حول أصل الكون وتطوره ومستقبله.









0 التعليقات:

إرسال تعليق

نرحب بجميع وجهات النظر
فلا تبخلوا بتعليقاتكم